اقتربت الصيغة التي خرج بها بيان رئاسة مجلس الأمن، مندّداً بجريمة اغتيال النائب أنطوان غانم، من الموقف الفرنسي أكثر مما اقتربت من الموقف الأميركي الذي بدا أكثر تصلباً ووضوحاً في اتهام سوريا، ولم يتردّد بيان السفير في بيروت جيفري فيلتمان في توجيه انتقاد علني آخر إلى حلفاء سوريا من اللبنانيين. وطبعت بيان رئاسة مجلس الأمن الأفكار ذاتها التي اتسمت بها سلسلة المواقف الأوروبية من الجريمة والدعوة العاجلة إلى الحوار لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.

استوقفت هذه الملاحظة مصادر دبلوماسية أوروبية واسعة الاطلاع في بيروت، في معرض ربطها بين بيان رئاسة مجلس الأمن الأربعاء والبيان الصادر عن لجنة المتابعة في قوى 14 آذار بعد ظهر الخميس وانطوى على مناشدة مجلس الأمن التدخّل لحماية الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وأبرزت ملاحظات:

أولاها، أن بيان رئاسة مجلس الأمن توخى التعبير عن سخط المجتمع الدولي وصدمته من الاغتيال الوحشي لغانم، وإدانته لكونه جريمة سياسية لا تستطيع المنظمة الدولية الوقوف موقف اللامبالاة منها. وهو إذ أكد مطالبة سابقة بإجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية في المهلة ووفق الأصول المنصوص عنها في الدستور، لم يشأ الذهاب إلى أبعد. وبحسب المصادر الدبلوماسية الأوروبية، ليس في جدول أعمال المناقشات الأميركية ـــــ الفرنسية في واشنطن، ولا مع سائر أعضاء مجلس الأمن، ولا على هامش المداولات في نيويورك، أي عزم قريب على تدويل الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وهو ما عبّر عنه بيان مجلس الأمن بحضّه اللبنانيين على معاودة الحوار في ما بينهم لإتمام هذا الاستحقاق بعيداً من أي تدخّل خارجي.

ثانيتها، أن الموقف الدولي من الاستحقاق الرئاسي يتركز، حتى الساعة بالأقل، على ترك اللبنانيين يحددون خياراتهم الدستورية والسياسية بأنفسهم. وهو أيضاً فحوى نصّ القرار 1559 قبل ثلاث سنوات، عندما وضع في أيدي اللبنانيين قراراتهم بأن طلب وقف التدخّل الخارجي في انتخابات الرئاسة اللبنانية حينذاك. ومع أن القرار 1559 حاذر تسمية سوريا بسبب تباين في المشاورات التي سبقت إصداره بين الأميركيين والفرنسيين، والأميركيين والروس (الذين امتنعوا عن التصويت)، فإن المناشدة الدولية تلك توجّهت إلى سوريا وسواها ممن كانوا يتدخّلون في الشأن اللبناني مباشرة ومداورة. والواضح أن دمشق أدركت، في الاتصالات التي أجراها بها الفرنسيون عشية صدور القرار لثنيها عن التمديد للرئيس إميل لحود، أنها هي المعنية بالقرار وبضرورة الامتثال لتنفيذه. فقلّلت أهميته بادئ بدء، قبل أن ترغم بعد أشهر على تنفيذ الشق المتعلق بها.

الأمر نفسه بالنسبة إلى الموقف الحالي لمجلس الأمن، وهو دعوته المعنيين جميعاً بالشأن اللبناني إلى وقف تدخّلهم في الانتخابات الرئاسية. وفي هذه العبارة، تقول المصادر الاوروبية واسعة الاطلاع، إشارة أيضاً إلى رغبة مجلس الأمن أن يجنّب نفسه، هو الآخر، التدخّل المباشر في استحقاق هو شأن اللبنانيين دون سواهم. لكن ذلك لا يحول دون إدراكه أن الوضع الداخلي في لبنان صعب، وأنه أضحى أكثر تعقيداً وقابلية لتبادل التوتر الحاد بين طرفي النزاع على أثر اغتيال غانم، وأنه لم يعد مؤاتياً انتخاب رئيس جديد للجمهورية في ظروف هادئة من دون بذل جهود إضافية لإطلاق الحوار الداخلي. مع ذلك لا تتخلى المنظمة الدولية عن موقفها المبدئي بضرورة اجتماع الأفرقاء اللبنانيين، بعضهم مع بعض، لإنجاز استحقاقهم الرئاسي المهدّد.

ثالثتها، لا يزال الموقفان الأميركي والفرنسي يمسكان بزمام المظلة الدولية على لبنان. ورغم وجود تمايز في النبرة والصيغ المستخدمة بين واشنطن وباريس بإزاء أكثر من جانب في الاستحقاق الرئاسي، فإن القاسم المشترك بينهما، جهاراً على الأقل، هو إصرارهما على إجراء الانتخابات الرئاسية في مهلتها وتبعاً للإجراءات الدستورية السارية، وتجنّبهما اتخاذ أي موقف علني من النصاب القانوني للجلسة لكون هذا الأمر منوطاً باللبنانيين حصراً. واستناداً إلى هاتين القاعدتين، تقول المصادر الدبلوماسية الأوروبية، فإن التنسيق بين واشنطن وباريس دائم ويشاركهما فيه الاتحاد الأوروبي. غير أن حماسة كل من الأميركيين والفرنسيين حيال مبادرة الرئيس نبيه بري ليست متطابقة. بل بدت باريس أكثر استعداداً للرهان عليها، بينما تتحفّظ واشنطن عنها من غير أن تعوّل عليها. وهو فارق حيوي بين موقفي البلدين. يحاول الفرنسيون الاقتراب من طرفي النزاع اللبناني من دون الظهور مظهر الانحياز إلى أحدهما ولا إلى أي من خياراته، سوى التأييد المبدئي لفكرة التوافق في مبادرة بري، أما الأميركيون، وسفيرهم في بيروت، فلا يترددون في تبرير انحياز لا لبس فيه، وتشجيع قوى 14 آذار على المضي في مواقفها وخياراتها. مع التوافق لكن ليس بأي ثمن.

وخلافاً لواشنطن، تعبّر باريس عن قلق مزدوج: نظرتها الواقعية إلى جلسة الثلثاء المقبل المرشحة للتأجيل، وخشيتها من انقضاء المهلة الدستورية دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية في 24 تشرين الثاني، حينئذٍ يغدو الموقف بالغ الخطورة. غير أن الدعوة إلى جلسة الثلثاء أثارت فضول بعض السفارات الأوروبية التي سعت إلى التأكد هل مجلس النواب اللبناني درج، تقليدياً، على انتخاب الرئيس الجديد منذ الجلسة الأولى التي يُدعى إليها في المهلة الدستورية.

رابعتها، أن امتناع الفرنسيين عن توجيه الاتهام إلى سوريا باغتيال غانم وزعزعة استقرار لبنان، لا يحجب واقع موقفهم من دمشق الذي عبّر عنه وزير الخارجية برنار كوشنير بقوله إن أبواب الحوار والانفتاح معها مفتوحة في ضوء تصرّفها حيال انتخابات الرئاسة اللبنانية وتجنّب التدخل فيها أو تعطيلها. وهو ما تشير إليه المصادر ذاتها بالقول أيضاً إن الإدارة الفرنسية الجديدة، وخلافاً لردود فعل الرئيس السابق جاك شيراك بمسارعته إلى اتهام سوريا، إذ تتغاضى عن توجيه اتهام سياسي إلى دمشق بالاغتيال وزعزعة الاستقرار اللبناني، يقتضي ألا يحمل ذلك هذه على تجاهل الموقف الفرنسي، والتردد في استجابته إيجاباً والكف عن التدخل في الشؤون اللبنانية.

ومع أن هذا الموقف ألقى بظلاله على رد الفعل الفرنسي على اغتيال نائب بعبدا ـــــ عاليه، فإن المصادر الدبلوماسية الأوروبية تكشف أن اللقاء الذي «كان مطروحاً عقْدُه في وقت ما» على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك بين كوشنير ووزير الخارجية السوري وليد المعلم «لم يعد وارداً الآن». ولم تبُح المصادر هل توقيت كشف إلغاء الاجتماع ناجم عن اغتيال النائب اللبناني أم لا.