لا نفع من قانون جيد إن كان القيّم عليه قاض غير مؤهل أو غير جيد. هذا الحكم ليس جديدا، فأغلب من قال بتحديث القضاء ومؤسسته ركّز على نزاهة القاضي واستقامته واستقلاليته؛ بل وتحسين أوضاعه المعيشية بشكل كبير كي لا تغريه العطايا والرشاوى. ولم ينس أحد أهمية تأهيل القضاة.

لكن التأهيل يجب ألا يقتصر على تمكن القاضي من حفظ أكبر عدد ممكن من نصوص القوانين، ومعرفته بأصول المحاكمات والمرافعات وغير ذلك، بل يجب الاهتمام بثقافته، القانونية وغير القانونية. فثقافته القانونية هي أمر آخر غير حفظه القوانين، هي معرفته بأصول التشريع ودور القانون والقضاء في حياة المجتمع، ودور القاضي الذي لا يقتصر على كونه مكلف من المجتمع والشعب، وليس من الله أو السلطات الأخرى، للبت بقضايا الناس الخلافية وفق القانون الذي ارتضاه أو شرّعه الشعب، بل دوره يتضمن إعلاء مكانة القانون. وهذا العلو للقانون لا يتأتى من ترهيب الأفراد منه أو بواسطته، بل من احترامهم له واعتباره موجود لإنصافهم بين بعضهم.

وما لم يمتلك القاضي هذه الثقافة فسيكون دوره خطير في تنفير الأفراد من اللجوء إلى القضاء، مما يدفع بهم إما لاقتصاص حقوقهم بأيديهم أو التنازل عنها مرغَمين. وكلا الحالتين تتسببان في خلق الضغائن بين أفراد المجتمع، وفئاته أيضاً. فالمهادن سيتنازل دوماً لأي صاحب بأس عن حقوقه إن انتهكها هذا الأخير، الذي بدوره سيقتص من الأول بقوة بأسه إن أخطأ هذا المستكين، ولو عن غير قصد، ومس حقوقه. فإن كان القاضي صاحب ثقافة قانونية فسيكون له دور أساسي في ترغيب الأفراد باللجوء إليه وإلى محكمته وإلى المؤسسة القضائية، حين يجدونه يُحِلُّ العدل سيداً فوق الجميع، لا أن يكون القانون سيفا مسلطا على الرقاب، ولو كانت رقاب الجميع.

وسيحتاج قاضينا هذا ليكتمل دوره الداعم للعدالة إلى ثقافة غير القانونية، أي ما يتعلق بمواقفه وقناعاته في قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والقيمية وحتى الجمالية. فالقاضي الذي يعتقد بأن دور المرأة يقتصر على كونها ربة منزل، وأنه من الحري بها المكوث في بيتها لا تخرج منه للعمل إلا للضرورات القاهرة، لا أعتقد أنه يمكنه أن يحكم بالعدل، وإن حكم بالقانون، في قضية امرأة عاملة. والقاضي الذي يرى فضلا للمرأة المحتشمة على المرأة السفور لن يكون عادلا مع هذه الأخيرة لو تعرضت للتحرش أو الاغتصاب، حتى لو حكم لها بموجب القانون. وكذلك هو القاضي الذي يعتبر أنه من الأَولى على المرأة المغتصَبة أو المعتدى عليها جنسيا أن تتستر على مصابها، لما فيه خير لسمعتها وشرفها وعرض أهلها، فيحكم "لها" بالزواج من مغتصبها "عقوبة له".

لا أعرض هذا الجانب إلا لأن لي تجربة شخصية فيه، حيث حضرت أمام قاضي التحقيق في محكمة داريا، الذي كان يحقق، منذ سنة ونصف، في قضية طفلتي ذات السبعة سنوات والنصف. لم تكن نظرة القاضي للقضية فيها أدنى احترام أو تقدير، فعلى الأرجح أنه متحدر من ثقافة تعتبر أنه ما كان يجب على أهل مثل هذه الطفلة الادعاء على رجل راشد، عمره حوالي الثلاثين عاما، حاول استدراجها ليعتدي عليها جنسيا. مع أني أجزم بأن هذا القاضي يعتبر أن ما قام به المتهم هو عمل شائن ويستحق عليه أشد العقاب. لكنه، على ما يبدو، كان من الصعب عليه قبول رؤيتي مصطحبا ابنتي إلى المحكمة دفاعا عن طفولتها وعن ضعفها وليس عن عرضي وسمعتي؛ وأن يعتبر أني بذلك أعلي من مقام القانون ومؤسسته القضائية.

لا شك أنه بمقدور بعض الأطفال، ولو لم يتجاوزوا الثامنة من عمرهم، أن يكذبوا وأن يختلقوا من القصص والحكايات ما يرضي خيالهم المتأثر بتجارب بيئتهم وأوساطهم التي يعيشون فيها. وسيكون على القاضي دوما أن يتبين صدق الطفل من كذبه، كما الكبار، لو كان مدعيا أو حتى مدّعى عليه. لكن ليس القاضي العادل من يتعامل مع طفلتي، أو غيرها، وكأنها امرأة راشدة تعرف الجنس وتدرك معنى التحرش الجنسي. بل ليكون عادلا يتوجب عليه أن يُشعر الطفل بالأمان، مدعيا كان أو مدعى عليه، صادقا كان أم كاذبا. فالطفل لا يعي أن القضاء والقانون والقاضي والشرطي جميعهم موجودين لحمايته من اعتداء الغير عليه، وهو لم يعرف بعد مصدراً للأمان غير أهله. لهذا كان على قاضي تحقيق داريا ألا يمنعني من تعريف طفلتي عليه على أنه الشخص المخوّل بحماية الأطفال من أي اعتداء أو أذية، وأنه الوحيد الذي له الحق بمعاقبة المعتدين، في محاولة أن تثق به وتأمن له. لكن قاضينا اعتبر أن تدخلي يخل بأصول الاستجواب؛ وكذلك كان موقفه حين طلب مني إبعاد ابنتي عني، التي اقتربت مني لأمسك بكتفها أشده مثنيا على أدائها المتماسك أمام القاضي، بعد أن انتهى من استجوابها ووضعت بصمتها الصغيرة على المحضر؛ لأن إمساك كتف الطفل من قبل والده يخل بأصول المحاكمات!!! هذه الأصول التي تتيح للقاضي الاستعانة بحركة من يده ليوضح لطفلتي سؤاله إن كان المتهم قد لعب بقضيبه، هكذا. تساءلت حينها، أو بعدها، ما الحركة التي تتيحها أصول المحاكمات للقاضية المرأة لإيضاح مثل هذا السؤال!؟

كل هذا فرض علي التنازل عن حق طفلتي بالادعاء، كي لا ترى المزيد من مثل هذا القاضي، فتتأذى من ذلك أكثر مما تأذت من الحادثة. مع اعتقادي أنها تمكنت من تجاوز الحادث ولم يؤثر كثيرا عليها، لجهلها بالتحرش الجنسي، ولرعاية أهلها والأصدقاء، ومساعدة الطبيب النفساني. لكنهم جميعا لن يكون بمقدورهم توليد الثقة عندها مجددا بالقضاة والقضاء السوريين. وستبقى واثقة من أن أهلها والأصدقاء هم حُماتها من أي ضيم أو أذية يمكن أن تصيبها.