ليست عودة الى الماضي بقدر ما هي تذكير بالأسس التي قامت عليها الدرامة التلفزيونية السورية ، والتي كان يجب ان نرى مفاعيلها مجسدة بعد هذا التطور الكبير المادي والتقني في امكانيات ، حيث تبدو هذه الدرامة مقطوعة الجذور مع أسسها الفكرية على الرغم من كونها تدعي العكس .

لقد قامت الدرامة التلفزيونية السورية على أسس التنوير والحداثة والتبشير بهما اذ كان المجتمع يمر بفترة انتقالية صعبة و كان على الفن والدرامة منه ، ( كما هي جزء من الأعلام ) أن يرافق هذا التحول في اتجاه متصالح عليه الا وهو الحداثة ، فالتلفزيون كجهاز تكنواعلامي هو من منجزات الحداثة ووسائلها وكان عليه الاخلاص لذاته قبل كل شيىء ، أي التوافق والانسجام بين التكنولوجيا ومشغلي هذه التكنولوجيا ، كما ينسجم ويتوافق الفن مع صانعيه ، من هنا كان للدرامة دور ( وليس وظيفة ) تنويري يجرؤ ويتجرأ على مناقشة الماضي بندية وبداهة دون خوف أو وجل ولم يسعى يوما الى تأثيم التغيير الأجتماعي على الرغم من قسوة المدنية الحديثة وعلى الرغم أوجاع عقابيل التغير الآجتماعي ، وكأن بالدرامة تستوعب استحقاقات هذا التغير وترفض الاجماع الشعبي على تبسيط وتستطيح التفكير من أجل توحيد المزاج العام او توحيد التفكير او توحيد القناعات ،بل ( وربما ) كانت تتقصد التباين والاختلافات كنتاج لطرحها الفكري الذي يقصد التنوير ولو تجريبيا عسى أن يصبح سياقا في القادم من الايام والقادم من الفنون والمسلسلات .

ان من ينظر الى او يستعيد من الذاكرة لمسلسلات مثل اسعد الوراق او حارة القصر وحتى صح النوم ومقا لب غوار وغيرها يدرك تماما أن غالب الدرامة التلفزيونية السورية هي ليست من ذاك الأب التنويري ، فقيم مثل المعاصرة والحداثة والتجرؤ على التقاليد البالية والافكار البالية لم تعد من صلب هذا العمل الفني الاعلامي العمومي اذا لم نقل انها ضد هكذا طروحات تماما ، فلم يعد التنوير كبنية فكرية هو المحرك الاساسي لصناعة الدرامة التلفزيونية ، او بطريقة أخرى أن هناك وسيلة تنويرية تقمع التنوير في ذاتها وتطرده من ذاتها ، متعاكسة مع علة وجود هذا القطاع التعبيري من وسائل الاتصال الحداثية ، ليتحول التنوير الى تبشير او الى دعاية فكروسياسية حسب رغبة الممول الذي هو في الغالب ممول خارجي ، وبالتالي ارساء قيم عكس تنويرية تتسق مع يونيفورم الأفكار التراثية التي تجتاح المنطقة ، حتى ولو كان الامر على حساب الدرامة ذاتها او المجتمع ذاته ، مما يفتح باب الاستسهال على تنفيذ المسلسلات ( تقنيا وفكريا وفنيا ) وبالتالي جذب منافسين لا يمتلكون الأهلية وقادرين على الانتصار لأنهم أقرب الى الجهة التمويلية فكريا وماديا وبالتالي تسقط الدرامة السورية في الفخ الذي نصبته لنفسها عبر مسألتين :

الاولى : التنافس الداخلي ونوعيته المنحطة.

الثاني :عقلية المنتجين ومداركهم المنحطة.

( المنحطة فيما سلف هي توصيف مقارن مع العصر وليس لها أي معنى آخر ) ( ولهذا الموضوع وقفة أخرى )

المهم بالمسألة هو تأثير المبنى الفكري للمسلسل التلفزيوني على المبنى المادي والأقتصادي الذي يتأتى من تأثير المسلسل على العقلية المجتمعية التي يطيب لها الاستقرار ، والتنعم بالاصول اخلاقية التليدة ( مسلسلات الحارة الدمشقية مثالا ) بعيدا عن أي حوار حداثي يواجه المجتمع ( وصناع الدرامة منه ) ناتج عن حضور الحداثة بيننا شئنا أم ابينا ، وأي استخدام غير حداثي لوسائلها له نتائج مدمرة ، وهو ما حصل مع الدرامة السورية التي اصرت أن كل هذه التقنيات والتطورات ما هي الا وساءل وجدت لنفعل بها ما نشاء حتى طحن البن ، ولكن المشيئة الاختصاصية للحداثة سوف تعاقب من استخدم وسائلها خطأ ، بخسارته المنتج نفسه أمام منافسين لا يتخذون الحداثة شكلا ومضمونا بنية لمنتجاتهم .

من هنا تم استهلاك واستخدام تأسيسات الدرامة التلفزيونية السورية بارتجال واستهتار لا بل بالتضاد معها ، لتتحول دراما التسعينيات المتابعة للسيرة التأسيسة والتي بنيت عليها أمجاد الدرامة السورية الى حطب محرقة في مسلسلات تتميز باللاحداثة والتهافت الفكري الاجتماعي ، وبدلا من تحويل التراث الى فلكلور تحول الفلكلور الى تراث يلزم المتلقي التحلي به حفظا على خصوصية تشبه خصوصية الغيتو او المعزل الاجتماعي ، وحفاظا على تكرار اجتراري يقمع أي تفكير بالتغير الاجتماعي الذي قامت عليه درامة التلفزيون ايام تأسيسها .