يوماً بعد يوم، تتكشّـف الأبعاد الضخمة للغارة الجوية الإسرائيلية الأخيرة على سوريا، والتي يُـقال الآن (إذا ما صحّـت تقارير الصحف البريطانية) أنها تضمّـنت، إلى الغارة الجوية، عملية إنزال في شمال بلاد الشام "أدَت إلى مصادرة مواد نووية كورية شمالية".
هذه الأبعاد تبدو حالياً وحشاً بثلاثة رؤوس: الأول، أزمة الملف النووي الكوري، والتي تمددت فجأة إلى الشرق الأوسط عبر سوريا. والثاني، الاعتبارات الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في منطقة الهلال الخصيب. والثالث، المجابهة الشاملة الإيرانية - الأمريكية، والتي تعتبر سوريا واسطة العقد فيها.

السؤال السريع الذي أطل برأسه غداة الكشف عن كل تفاصيل العملية الإسرائيلية في 6 سبتمبر الحالي قرب منطقة دير الزور السورية الشمالية، والتي ذكِـر أن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك أشرف عليها، هو: هل كان هدف الغارة الإسرائيلية "السرية" الأولى، كوريا الشمالية وليس سوريا؟

السؤال مبرر، خاصة وأنه تقاطع مع معلومات أخرى أشارت إلى أن الولايات المتحدة تستنفر هذه الأيام كل طاقتها وإمكاناتها لحمل كوريا الشمالية على تنفيذ تعهداتها بنزع برنامجها النووي كلياً، في إطار اتفاق 13 فبراير الماضي. ومعروف أن هذا الاتفاق ينص على مقايضة السلاح النووي الكوري الشمالي بإمدادات الطاقة وبضمانات أمنية ودبلوماسية.

واشنطن لا تثق بتعهّـدات بيونغ يانغ، وهي ربما احتاجت إلى "وثائق"، كتلك التي ربما وفَرتها لها عملية الكوماندوس الإسرائيلية للقبض على كوريا الشمالية متلبّـسة في الاجتماع الحاسم الذي ستعقده اللّـجنة السداسية الدولية حول كوريا (أمريكا والصين والكوريتين وروسيا واليابان) في بايجينغ يوم الخميس 27 سبتمبر، وهذا ما ألمحت إليه كوندوليزا رايس بعد اجتماعها في نيويورك مع زميلها الصيني يانغ جيسي، حين دعت كوريا الشمالية إلى ممارسة "الشفافية الكاملة في برنامجها النووي" وحين قالت: "هناك بصراحة الكثير من الأسئلة التي لا تزال بلا إجابات حيال كل مناحي البرنامج النووي الكوري".

الكنز الإستراتيجي

إسرائيل إذن، استخدمت سوريا لإدانة كوريا الشمالية، خِـدمة للولايات المتحدة، وهذا من شانه أن يُـعيد لها (إسرائيل) شيئاً من سُـمعتها ككَـنز إستراتيجي أمني وعسكري لأمريكا في الشرق الأوسط.

والواقع، أن الدولة العبرية كانت طيلة الأشهر الـ 12 الماضية، التي تلت حرب يوليو 2006 في لبنان، تُـعيد النظر في كل إستراتيجيتها العسكرية بعد أن تبيّـن لها أن تفوّقها التكنولوجي في السماء، لم يضمن لها النصر على الأرض.

وقد عبَرت إعادة النظر عن نفسها في التقارير الغربية التي نشرت خلال الشهرين الماضيين، والتي أشارت إلى أن الجيش الإسرائيلي "يعد العدة لحرب كبيرة جديدة، ستكون تقليدية هذه المرة" وأن عشرات آلاف الجنود ومجندي الاحتياط يتدرّبون الآن على تكتيكات هذا النوع من الحروب".

لماذا الحرب التقليدية؟ لأن القيادة العسكرية الإسرائيلية اكتشفت خلال حرب لبنان، أن الدولة العبرية، وبرغم امتلاكها لأعتى آلة عسكرية في الشرق الأوسط، غيرُ قادرة على كسب الحروب غير التقليدية، أي حروب العصابات، ولذا، فهي قرّرت العودة إلى المفاهيم العسكرية القديمة التي تبنّـتها منذ عام 1948 والقائمة على شن الحروب الخاطفة، التي لا تستنزف قِـواها البشرية والمادية المحدودة، والتي قد تحميها من الضربات الصاروخية في عمقها.

قال الكولونيل الإسرائيلي نسيم هوري في هذا الصدد: "ما حدث في لبنان (حرب 2006) وما يُـمكن أن يحدث ضد سوريا، أشبه بحرب جادّة يدفع فيها كل طرف بقوات مسلحة مركّـبة ضد الآخر، ويعني ذلك تحوّلاً بمِـقدار 180 درجة في استعداداتنا"، وهذا بالتحديد ما تفعله إسرائيل الآن. فهي قامت بمناورات عسكرية ضخمة استمرت أسابيع عدة في مرتفعات الجولان المحتلة وفي صحراء النقب، تدرّبت خلالها وحدات من الجيش يصِـل حجم كل منها إلى فرقة على اجتياح مواقع وقرى سورية، اعتمادا على أسلوب المناورات الخاطفة الذي استخدمته إسرائيل لتحقيق النصر في حروب سابقة ضد الجيوش العربية أعوام 1956 و1967 و1973.

والسؤال الآن هو: إذا ما كانت إسرائيل قرّرت العودة إلى إستراتيجيتها القديمة القائمة على الحرب الخاطفة، فهل يجاريها العرب ليضمنوا لها بذلك النّـصر المحقّـق بسبب تفوّقها التكنولوجي والعلمي - التخطيطي الكاسح، أم يعمدون هم إلى فرض طبيعة الحرب وأساليبها؟

سوريا ربّـما تكون بالفعل في صدد إعادة تشكيل إستراتيجيتها العسكرية، بحيث تعتمد على شكل الحروب غير الكلاسيكية التي أثبتت نجاحها ضد القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان والتي تضمّـنت المزاوجة بين قوات الكوماندوس وبين استخدام الصواريخ ضدّ دبابات الميركافا والسفن الحربية الإسرائيلية، وإذا ما كان هذا صحيحاً، فستكون ثمة مفاجآت كبيرة بالفعل للمغامرات الإسرائيلية العسكرية المحتملة الجديدة.

بيد أن هذا التطور في حاجة إلى تدقيق وتوثيق، لأنه لن يكون من السَّـهل على سوريا تحويل نفسها بين ليلة وضُـحاها من دولة بقوات نظامية ضخمة (زهاء 400 ألف جندي) تمتلك أساطيل جوية وبحرية، إلى دولة بقوات حرب العصابات.

فيتنام الشمالية استطاعت أن تفعل ذلك خلال الحرب ضد الأمريكيين في حِـقبة السبعينات من القرن الماضي لسببين: الأول، أنها كانت دولة ثورية إيديولوجية تضع في أولوية اهتماماتها مسألة التحرر الوطني، لا البناء الاقتصادي، والثاني، أن جيشها قام في الأساس على مبدإ حرب العصابات.

أما سوريا، فإنها تسعى سعياً حثيثاً الآن للانفتاح الاقتصادي والسياحي وجذب الاستثمارات من كل مكان، كما أن جيشها، وإضافة إلى كونه نظامياً تقليدياً، لا يستطيع التحوّل إلى "جيش ثوري" تابع لدولة "غير ثورية".

قد تستطيع سوريا تحويل بعض قوات النّـخبة إلى قوات حرب عصابات، لكن هذا لن يكون كافياًُ لمنع إسرائيل من تحقيق النصر العام في حرب تقليدية خاطفة، برغم الخسائر التي ستُـكبِّـدها إياها قوات النخبة هذه، المطلوب سيكون أعمق بكثير: تغيير بنية وأولويات وعقائد، ليس فقط القوات المسلحة السورية، بل أيضاً الدولة السورية نفسها، وهذا أمر يبدو صعباً أو مستبعداً، حتى الآن على الأقل.

على أي حال، غارة دير الزور دشّـنت المنحى الجديد في الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، والآتي من الأيام سيُـثبت مدى وحجم وأبعاد هذه الإستراتيجية.

الهدف: إيران

نأتي الآن إلى الرأس الثالث من أبعاد الغارة الإسرائيلية: المجابهة العامة الإيرانية - الأمريكية في الشرق الأوسط. هنا أيضاً، سنجد أن استهداف إسرائيل (وأمريكا) لسوريا، لم يكن صُـدفة أو عبثاً.

فإذا ما كانت واشنطن تريد في هذه المرحلة محاصرة بيونغ يانغ، فهي (ومعها تل أبيب) تسعى أيضاً إلى قطف ثِـمار حِـصارها لدمشق أساساً عبر العمل على نسف تحالف هذه الأخيرة مع طهران، لكن كيف؟

صحيح أن الغارة الجوية الإسرائيلية وعملية الكوماندوس صعّـدتا إلى حد كبير التوتر الأمني مع سوريا لحملها على الابتعاد عن إيران، إلا أن واشنطن وتل أبيب ما تزالان تفضلان الاقتصار على الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على بلاد الشام أو هذا على الأقل ما تتوقّـعه مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، التي استبعدت قبل أيام استخدام الخيار العسكري، وطالبت بمضاعفة الضغط على كل من الحكومات ورجال الأعمال الخليجيين والأوروبيين لوقف أو تجميد استثماراتهم المتوسعة في سوريا.

المنافع التي يراها المخططون الأمريكيون والإسرائيليون من عملية إحكام الخِـناق السياسي والدبلوماسي حول رقبة دمشق، تبدو عديدة:

1- إنهاء دور سوريا لدولة مجابهة مُـعيقة لعملية السلام الأمريكي - الإسرائيلي، الأمر الذي سيُـضعف حركة "حماس" ويعزّز مواقع "فتح" ويُـؤذي حزب الله، مما سيوفَـر ضمانات للجبهة الشمالية الإسرائيلية.

2- وقف تدفق السلاح والرجال إلى المقاومة في العراق.

3- توجيه ضربة إستراتيجية إلى إيران وتعزيز انقسام المنطقة بين العرب والفرس، مما يُـساعد واشنطن على إجهاض البرنامج النووي الإيراني، وهذا الهدف الأخير مهم، لأنه سيمنع إيران مستقبلاً من تمديد مظلّـتها العسكرية النووية إلى سوريا وحزب الله وحماس.

أهداف طموحة، لكن، هل هي قابلة للتحقق؟

ميتشل ريس، مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية في الفترة بين 2003 و2005، واثق بأن واشنطن تستطيع عبر الضغط والحِـوار أن تُـكرر في سوريا النجاح الذي أحرزته في ليبيا، وهذا يعني في الدرجة الأولى فك عُـرى التحالف الإيراني – السوري، وهي "ثقة" يجب أن تدُق أجراس الإنذار في سوريا بقوة، وحتى أكثر من تلك التي لعلعت في أعقاب الغارة "السرية" الجوية عليها.

ماذا تعني كل هذه المعطيات؟ إنها تعني ببساطة، أن إسرائيل ضربت بغارتها (الناجحة على ما يبدو) على سوريا ثلاثة عصافير إستراتيجية بحجر واحد: توفير خدمة إستراتيجية كُـبرى لواشنطن في معركتها مع بيونغ يانغ وبث الحياة في الروح البسماركية العسكرية الإسرائيلية ومواصلة العمل على خنق سوريا وحِـصار إيران، وربما هذا ما دفع كل الإسرائيليين، بمن فيهم زعيم المعارضة الليكودية بنيامين نتنياهو إلى "الاحتفال بالنصر، وهي "إنجازات"، إذا ما صحّـت، تستحق الاحتفال بالفعل!