لم يكن لدى كاتب هذه السطور أدنى شك أن الحزبي المتمرس في السياسات الداخلية، الحاد اللسان في الإجابة على أتفه استفزاز حتى لو جاء من أقل الصحافيين أهمية، لن يرخي قبضته على زمام الحكم أو يتراجع امام خصومه الداخليين بسهولة. أولمرت هو نموذج السياسي الإسرائيلي المتمتع بصفة الـ «شوتسباه» (ترجمتها الحرفية من العبرية وقاحة، ولكن باللكنة الإيديشية تضاف للوقاحة مسحة من التحبب) التي تجمع التعبير النابي والسلوك العدائي كنوع من المناقبية الإسرائيلية. وهو حزبي متمرس منذ ان استلهم قائده ومعلمه زعيم المركز الحر شموئيل تمير أحد الأقطاب المؤسسة لـ «الليكود». وقد اشتهر قبل أن يصبح رئيس بلدية القدس كأحد شباب مناحيم بيجن، وقاد حملة تشويه الشخصية ضد شمعون بيريس في انتخابات عام 1981، إذ نسق حملات الإعلام الحادة والكثيرة القذع والدم عند «الليكود». وفي مرحلة زعامة نتانياهو لم يكن مستعدا لقبول سيطرة زمرة من الشباب «البلطجي» أمثال تساحي هانغبي وليبرمان ويسرائيل كاتس في حينه على «الليكود»، فترك الحزب. ثم شكل مع شارون حزب «كاديما» مندفعاً نحو فكرة الفصل الديموغرافي عن الفلسطينيين، ولكن من دون التخلي عن الشعبوية والحدة التي ميزت خطاب اليمين والتي حملها معه إلى مركز الخارطة السياسية.

ليس هذا الرجل فريسة سهلة للإعلام ولا لقمة سائغة لليسار أو اليمين المتطرف. فهو يعرف ان السياسة لعبة قوة تحتاج إلى قدرة على التحمل. ومن ينتصر هو ليس من يتحبب للإعلام او لخصومه بل من يصمد حتى عندما لا يتمتع بشعبية، ومن لا يعبأ بما يقال عنه، بخاصة من قبل خصومه أو في الثرثرة الإعلامية، وهو الذي يرد بقوة من دون أن يدع أعصابه أو صحته تتأثر، أي من يتمتع بجلد أسمك... فهذه من نقاط قوة السياسي العديم الكاريزما في نظام برلماني متقلب وكثير الأحزاب.

كان على أولمرت حال انتخابه أن يعبر مرحلة الشلل السياسي التي تلت انهيار المشروع الذي انتخب على أساسه، وهو مشروع فك الارتباط. وحتى عودة النمو الاقتصادي لم تسعف شعبيته المتدنية كنموذج للسياسي المهني الوصولي. فقد قامت «كاديما» على محورية شخصية شارون وفكرة فك الارتباط من دون تقديم تنازلات، وانهارت الفكرة، أما شخصية شارون الذي أدى مرضه الى تعاطف مع حزب «كاديما» فبات بعد الانتخابات غياباً من دون تعاطف. بعد الانتخابات مباشرة قصفت إسرائيل غزة بعنف خلال شهري حزيران وتموز عام 2006 على أثر خطف جندي إسرائيلي، ثم لاحت ما اعتبره اولمرت مخطئاً فرصة سانحة لشن حرب على لبنان. وحاول من خلال الحرب أن يرمم ليس فقط قوة الردع الإسرائيلية بل هيبته وشعبيته هو أيضا، فانهارت تماما في الحرب وبعد الحرب... وذلك بسبب قرار الحرب المتسرع ذاته، وعدم وضوح الأهداف، وسوء الأداء والاستعداد القتالي. كل ذلك في مقابل أداء بطولي حقيقي للمقاومة.

خرج أولمرت من الحرب بأدنى مستوى شعبية لرئيس حكومة في إسرائيل. وتجرأت عليه حتى صنيعته وصنيعة شارون وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، التي لا تقل عنه وصولية، إذ طالبته عمليا باستنتاج النتائج والاستقالة. ولكنه صمد وترك الإهانات تنزلق عليه من دون ان تمس إرادته بالبقاء، معتمدا على عدم رغبة أحزاب الائتلاف «كاديما» وحزب العمل و «شاس» في خوض انتخابات مبكرة ينجم عنها ضرر جسيم لتمثيلها العددي في البرلمان. حاول اولمرت الحفاظ على حزب غير قائم في الحقيقة إلا ككتلة نيابية، وصبر حتى على إهانة ليفني ولم يقلها. ولكنه بقي قلقا من إمكانية انسحاب أعضاء من حزبه أو تخليهم عن الحكومة في تصويت نزع ثقة لصالح «الليكود» - والمقصود هو أولئك الذين ليس في نفوسهم أمل أن يُنتخبوا في المرة القادمة لمعرفتهم بتدني شعبية حزبهم، ويمكن إغراؤهم بإمكانية الحصول على موقع في قائمة «الليكود» القادمة.

بعد فشل إسرائيل في حرب لبنان وانتصار المقاومة، وبين تقرير وآخر للجنة فينوغراد للتحقيق في حرب لبنان بدا أن أعجوبة فقط تنقذ أولمرت. ولم تأت أعجوبة طبعا، ولكن ارتفعت شعبيته عند بعض الأنظمة العربية، ربما نتيجة لحربه على لبنان، ورغم فشله في هذه الحرب. وجرى فجأة إحياء مبادرة السلام العربية، بعد أن ارتكبت إسرائيل أفظع الجرائم في لبنان، ومن دون أن تغير رئيس حكومتها الذي أعطى الأوامر، وقبل أن تلمح إسرائيل باستعدادها لقبول المبادرة التي رفضتها سابقا. ونجم عن تجديد المبادرة تحرك ديبلوماسي وتحريك لما يسمى بـ «عملية السلام». وجرى تحويل المعتدي على لبنان الى شريك سلام، بحجة إحياء مبادرة يرفضها هو. وتلا إحياء المبادرة التحرر من «عبء» حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية نتيجة للصدام في غزة استغلته القيادة الفلسطينية المتمثلة بحزب الرئيس (وهو ليس بالضرورة حركة «فتح» حينما يتعلق الأمر بصانعي القرار فيه) للتحرك وتطبيق كل ما كانت تفكر به. وكانت قد حرمت من تطبيقه سابقا مرة بسبب وجود ياسر عرفات كـ «معيق لعملية السلام» بعد كامب ديفيد، وأخرى بسبب فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية.

هذا التحرك السياسي الفلسطيني المندفع الى لا شيء وغير المتأثر حتى بإعلان غزة كيانا سياسيا معاديا لتبرير قطع الوقود ثم الكهرباء ثم أنواع البضائع كافة «غير الضرورية» عن القطاع، أعاد بعض اللون لوجه حكومة أولمرت الشاحب. ثم تجرأ أولمرت على عملية قصف غامضة في سورية يجري التهامس بشأنها في إسرائيل كناجحة واستراتيجية في نوع من توكيل أساطين الصحافة الإسرائيلية للادعاء أنه جرى ترميم هيبة الردع الإسرائيلية مع هذه العملية. وعادة ما يتصرف الصحافيون الإسرائيليون بدوافع أتفه مما نتوقع، إذ يشترى رضاهم عن الحكومة وعن الذات عندما يشبع غرورهم فيشركون في سر أمني كأنهم مسؤولون وطنيا ويطلب منهم ألا يكشفوه.

هكذا بدا فجأة، وقبل أن يجف الدم في جنوب لبنان، وبينما يستمر الناس بفقدان اطرافهم في انفجار قنابل عنقودية لا تصل أصلا الى نشرات الاخبار، وفي حين تستعد غزة لعقوبات جماعية إسرائيلية، أن تياراً عربياً كاملاً أخذ بيد أولمرت وأعانه على اجتياز محنته من دون مقابل، ومن دون تعهد من قبل أولمرت بقبول أي بند من مبادرة السلام العربية التي تم إحياؤها لهذا الغرض. ثم جمدت من جديد واحتل مكانها الحديث غير الملزم عن اجتماع السلام الأقل إلزاما الذي دعا اليه جورج بوش من دون أجندة أو اساس.

وبلغ الامر أن توقعت مجلة «الإيكونوميست» في عددها الأخير (22-28 ايلول/ سبتمبر) ان يستمر اولمرت في الحكم حتى نهاية مدته في العام 2010، وهو ما لم يتسنَّ لأي رئيس حكومة إسرائيلي منذ العام 1981.

وفجأة وفي يوم 25 ايلول الجاري أعلن المستشار القضائي الإسرائيلي انه سوف يوصي بفتح تحقيق جنائي ضد أولمرت بتهم ذات صلة بالفساد، وذلك في قضية واحدة حتى الآن من ضمن قضايا تنتظر البت فيها. وعاد في يوم واحد عدم الثقة والخوف من تقديم الانتخابات. واصبح ضرورياً انتظار نتائج التحقيق الإسرائيلي.

ولكن لا يجوز خلط حابل القضاء الإسرائيلي وتحقيقاته بنابل القضايا الاستراتيجية. لن تؤثر هذه القضايا على سياسة أولمرت في المؤتمر، رغم أنه سوف يتهم إسرائيليا بالاندفاع إلى السلام لكسب الإعلام الى جانبه للتغطية على التهم الجنائية. وقد جوبه شارون بذلك في حينه عندما قرر فك الارتباط في غزة، إذ اتهم بالاندفاع لفك الارتباط لتملق الإعلام الإسرائيلي المؤيد لأي تسوية في الضفة والقطاع ككفيل له ضد الملفات الجنائية التي اتهم بها. ولكن حسابات شارون الاستراتيجية كانت مختلفة عن هذه الحسابات الصغيرة. وبغض النظر عن قرار المدعي العام الإسرائيلي فإن سياسة أولمرت التي تخفض سقف التوقعات من هذا الاجتماع هي السياسة الاميركية نفسها التي ترى في المؤتمر جزءاً من الجهد لبلورة جبهة عربية ضد سورية وإيران وضد «حزب الله» و «حماس» في مجتمعاتهما، بحيث يحمل المؤتمر جزءاً من اللوم الواقع على ما يسمى بقوى الاعتدال بسبب سياسة أميركا في القضية الفلسطينية، ويكافئ المعتدلين بنوع من المكرمات في الوقت ذاته.

بتحقيق ومن دون تحقيق تتحكم بأولمرت اللاءات الثلاث التي يقوم عليها ليس فقط الاجماع الإسرائيلي، بل ائتلافه ذاته، وهو ائتلاف يناور بين حزب العمل وليبرمان. ولكي يتمكن من المناورة يفترض أن مؤسسة رئاسة السلطة الفلسطينية هي رهينة بيد المفاوضات او ما يسمى بـ «عملية السلام» مهما حصل. ولكن لماذا يجب ان تكون اية دولة عربية شاهد زور على ما يجري؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)