لم يكتف صحفيو موقع "سوريا الغد" الالكتروني بالمتابعة الحثيثة لأخبار الغارة الجوية التي شنتها الطائرات الإسرائيلية على شمال البلاد، وعلى نشر أغلب التحليلات المحلية والخارجية التي رافقت الحدث، بل ذهبوا يبحثون عن آثار الغارة وأضرار "ذخائرها المرمية" في زوايا أكثر وجعا وأخطر دمارا من الجانب العسكري والمادي للغارة. ذهبوا يستطلعون مدى استعدادنا المدني لحرب كثر ضجيج احتمالاتها منذ عدة أشهر، فاختاروا موضوعين لهما أهمية بالغة في الجهوزية المدنية لحماية ظهر مقاتلينا، الذين إن شاءت الأقدار واضطروا لخوض غمار حرب لعينة مع الاحتلال الإسرائيلي سيكونوا بأمس الحاجة، كيما يقاتلوا ببسالة وإقدام، إلى حماية أسرهم وعائلاتهم ومدنهم وأحيائهم. لا أن تتم حمايتهم من جراء أي قصف إسرائيلي مرجَّح لمناطق مدنية واقتصادية فحسب، بل حماية عزيمتهم وتمسكهم بحرية وطنهم وأرضه. فالجندي لا يمكنه التضحية ما لم يعلم مسبقا أن شعبه وحكومته مستعدين للمواجهة.

فقد قام صحفيو موقع "سوريا الغد"، ضمن إمكانيات الموقع المتواضعة جدا، باستطلاع صدى الغارة عند عينة صغيرة من الشباب السوري؛ وكانت النتيجة درجة انفعال منخفضة جدا. ليس الشباب هم المسؤولين أو الملامين على مستوى درجة انفعالهم وحماسهم تجاه مثل هذه التحديات المصيرية، بل أولي الأمر هم المسؤولون عن ذلك. ولو كان الاستطلاع، الذي قام به الصحفي النشط خالد الاختيار، طاول عينة أوسع انتشارا وأكبر عددا (وهذا يفوق إمكانيات الموقع) وخلصنا لنفس النتيجة لكنا أمام حقيقة محرجة، بل ومربكة: كل دروس التربية القومية لم تفد برفع حساسية شبابنا تجاه مخاطر وجود عدو شرس يحتل أرضنا، وكل دروس القراءة لتلاميذ الابتدائي المليئة بـ"قيم" البطولة والتصدي وشتم العدو "الغاصب" يزول مفعولها بعد البلوغ، وكل محاضرات التوجيه السياسي، التي لا تخرج عن إطار التوجيه الابتدائي، دفعنا أكلافها هباء، وكل عقائدية الإعلام الموجه (صحافة وتلفزيون وإذاعة، ومجلات حائط) لم تفد لا بتخويف العدو ولا باستثارة اهتمام الشباب "المودرن".

أما الاستطلاع الذي أجرته الصحفية سها مصطفى حول واقع الملاجئ في بعض أحياء مدينة دمشق، التي ليست في منأى عن أداة الحرب المعادية، فكان مكذِّبا لادعاءات مسؤولي الحكومة بأنها (أي الحكومة) جاهزة للمعركة. فأن تكون عاصمة المواجهة من دون ملاجئ جاهزة لاستقبال المدنيين حتى في أزمنة الاستنفار الإعلامي، الذي عايشناه طوال الأشهر الماضية والذي بلغ أقصاه في الأسابيع المنصرمة التي تخللتها واخترقتها الغارة الجوية المعادية، فهذا يعني أن حكومتنا المدنية لا تقوم بدورها في حماية ظهر جيشنا ومقاتليه وجنوده. بل هي جاهزة لأن تخذلهم في حال وقعت الحرب، وسيترتب على جيشنا البطل مهمات وهموم إضافية.

الحرب ليست أمرا عاديا أو بسيطا، وليست برنامجا حكوميا يفشل فنستعيض عنه بغيره، ولا تحتمل أن يعدنا وزير أو مسؤول بتحسين حال الكهرباء أو الماء أو الاتصالات ولا يفي بوعده، لهذا نحتاج أن نثق بالحكومة التي عليها أن تتحمل مقدار ما يتحمله الجيش في حالة الحرب، وأن تكون على قدر المسؤولية التي يتحملها جيشنا. فليست جميع الحروب تُحسم على الجبهات، بل أغلبها يحسم خلف الجبهات: في الصفوف المدنية.

لكن هل يكفي أن نطلب من الشعب الثقة بحكومته؟ وإن لم يثق بها يكون هو الملام؟ لا الشعب لا يلام في هذه الحالة، فالحكومة التي لا تَصْدقه في أزمنة السلم سيكون من الصعب عليه أن يثق بها في أوقات الحرب أو الشدة. ونحن في حالة شدة الآن. فإن كانت الحكومة فيما مضى أقل جدية ومسؤولية، فإنها مطالبة اليوم بإنجازات مهمة كيما تبني الثقة في نفوس مواطنيها. فعليها الآن أن تصدق بالكهرباء والماء والدعم والمواصلات والتعليم والاتصالات ليس التزاما بخطتها الخمسية العاشرة، بل لتأكيد هذه الثقة التي نحن بأمس الحاجة لها أكثر من الماء والكهرباء، وأكثر حتى من رغيف الخبز.

فإن كنا لا نحتاج أن يطلعنا قادتنا العسكريون على مستوى الجاهزية الحربية، وعلى نوعية وجدة عتاد جيشنا وأسلحته، بل العكس نطالبهم بالمحافظة على سرية مثل هذه المعلومات تحت رموش عيونهم حتى يتمكنوا من مفاجأة العدو بما لديهم، وإحباط أي عمل عدواني يخطط له للنيل من وطننا، فإننا لا نقبل مثل هذه السرية في الميادين المدنية الأخرى. فلن تشكل مفاجأة للعدو وجود ملاجئ سرية لا يعرف بها المواطنون المدنيون، ليلتجئوا إليها وقت الحاجة القاتلة، بل على الأرجح سيتفاجأ سكان دمشق حينها، ممن لم يقرأ استطلاع "سوريا الغد"، بأنه سيان إن ينزل إلى الشارع أم يصعد إلى سطح منزله للفرجة على الطائرات، كما في حرب 67.

الاستعداد الحكومي المدني ليس موجها للعدو، بل موجه للأمة كي تطمئن وتكون مستعدة لمآزرة جيشها، الذي يحتاج أن يكون شباب بلاده في أعلى درجات الحساسية الانفعالية تجاه المخاطر الحربية التي يواجهها بلدنا. وكيما يكون هؤلاء الشباب على مستوى هذه المسؤولية يحتاج للحرية، للكثير من الحرية في كل ما يفعلونه، ضمن إطار القانون الواضح، من دون أن يشكك أحد أو جهة بوطنيتهم: لأنهم هم الوطن. حينها سيكونوا جاهزين، في ظل حكومة موثوقة، لأن يحفروا الملاجئ بأظافرهم ليأمّنوا على أهلهم: أهل بلدهم وجيشه.