بأي السوريتين سورية اليوم أشبه: سورية التي كانت، بين استقلالها عن الفرنسيين عام 1946 وتولي البعثيين السلطة فيها عام 1963، موضع صراع بين القوى الإقليمية والدولية النافذة، والتي خصها باتريك سيل بكتاب شهير: «الصراع على سورية»؛ أم سورية التي صارعت في الربع الأخير من القرن العشرين على النفوذ والدور في الشرق الأوسط، والتي خص الكاتب البريطاني نفسه رئيسها حافظ الأسد بكتاب شهير بدوره: «الأسد والصراع على الشرق الأوسط»؟

ولا واحدة منهما. فنظامها اليوم أقل تحكما بالتفاعلات الإقليمية مما كانه نظام الرئيس حافظ الأسد منذ أواسط السبعينات حتى وفاة مؤسسه تقريباً، لكنه كذلك أكثر تحكما بالعمليات السياسة المحلية مما كانت الحكومات المتعاقبة أيام الصراع على سورية. سورية اليوم ليست موضعا سلبيا يتجاذبه فاعلون إقليميون ودوليون، يجدون بين مدنييها وعسكرييها ركائز لهم، وفي الوقت نفسه ليست فاعلا إيجابيا يشارك في النظام الإقليمي أو يحرص الفاعلون المتنافسون الآخرون على إرضائه وتجنب عداوته. هذا وضع قلق وغير مستقر. لا يخفي قلقه إلا إجماع نادر من الفاعلين الإقليميين والدوليين والمحليين على تفادي تغير النظام القائم: الأميركيون والإسرائيليون، الدول العربية النافذة، النظام ذاته بالطبع، المجتمع السوري، بل قطاعات واسعة من المعارضة أيضا، لا يريدون تغير النظام. السبب بسيط: الجميع خائفون من الأسوأ. الأميركيون يخشون اتساع مساحة عدم الاستقرار والدول الفاشلة، ومن ثم «الجهاد الإسلامي». الإسرائيليون يخشون ذلك أيضا، أو حلول حكم إسلامي سيكون مصدر إرباك على الأقل لبعض الوقت، أو نشوء نظام وطني عقلاني. الدول العربية تخشى اتساع مساحة الفوضى الإقليمية وقاعدة الضغوط الداخلية عليها، إن التحقت سورية بالعراق. ولا ريب أن أكثرية السوريين تخشى مصيرا عراقيا لبلدها. ومن لا يفضل الوضع الحالي على رؤية السيارات والأشخاص المفخخين يتفجرون في شوارع دمشق؟ السياسة التي لا ترى ذلك عمياء بكل بساطة. وما من أحد يملك برهانا على أن هذا غير ممكن في سورية. وهنا في الواقع مصدر أزمة المعارضة السورية اليوم. فمفهومها بالذات يتحدد بالعمل من أجل تغيير النظام، لكن يحتمل جدا أن يحمل التغيير مخاطر يتعذر على المعارضة إدارتها وتدبرها. هذا ما يبدو غائبا عن إدراك «جبهة الخلاص الوطني» (تحالف بين الإخوان المسلمين وعبد الحليم خدام) التي عقدت مؤخرا مؤتمرا في برلين، يوحي ما يتداول عنه أنه غافل عن هذا التغير النفسي و»التخيلي» الكبير في سورية منذ انفلتت الأوضاع في العراق في مطالع عام 2006.

إذن لكل أسوأه، لكن شراكة الخوف من الأسوأ توحد الجميع: الفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين. هذا وضع فريد من نوعه. لا أحد يكن عواطف ودية للنظام، لكن ما من أحد يود زواله. هذه أهم أوراق النظام اليوم. كان المرحوم جوزف سماحة قد كتب قبل قرابة عامين مقالة في جريدة «السفير» عنوانها «قوة النظام العربي في ضعفه»، أشار فيها إلى أن نظمنا تهدد أعداءها بأنها قد تنهار، وأن عواقب انهيارها الخطيرة ستصيبهم بين من تصيب. الأرجح أنه كان يفكر في سورية وقتها، حين كانت في ذروة هذا الصنف من القوة.

النظام مدرك هذا الواقع أحسن إدراك. وهو لا يقترح على الفاعلين المذكورين، السوريين قبل غيرهم، إلا معادلة مستحيلة: نحن أو الفوضى! الفوضى أسوأ، إذن نحن البديل. الورقة حقيقية، لكنها خطيرة. فهي أولا تحصر خيارات السوريين بين بديلين: السيء، وإلا فالأسوأ. وهي ترهن الاستقرار بأوضاع سياسية بعينها، ما يعني أن ضامني الاستقرار اليوم يمكن أن يمسوا عنصر فوضى إن توفرت قوى أقدر منهم على توفير مادة الاستقرار. هذا احتمال نظري لا يزال، لكن الغرض منه كشف مدى تسييس استقرار البلد، وكونه ليس برنامجا أساسيا لأي كان. وما لا تسأله هذه السياسة هو: ترى من سيهتم باستقرار سورية إذا حصل أن ضمن الاستقرار للعراق وللبنان؟ وحده من لا يفكر بغير اللحظة الراهنة يمكن أن يستبعد احتمالا كهذا.

نعود إلى القول إن من شأن مقاربة سورية اليوم من جهة نموذجي باتريك سيل، أن تكون موضع صراع أو مصارعا، أن يكون مضللا. إنها تعرض نموذجا مختلفا، يختلف عن مزيج الانقلابات العسكرية العاصفة والعهود الديموقراطية البرلمانية الهشة والتدخلات الخارجية الفاضحة، أي النموذج الأول، كما يختلف عن النموذج الثاني: «استقرار» داخلي متمركز حول «الأمن»، ونفوذ إقليمي مرتبط بنظام الاستقطاب الدولي و/ أو بتفاهمات دولية وإقليمية. سورية اليوم بلد «مستقر» داخليا، لكن دون تفاهمات إقليمية ودولية. وهي بلد يحرص الجميع على استقراره، كل لأسبابه. وهو لا يكاد يعرض بضاعة غير استقراره الذاتي يسوقها في «الشرق الأوسط».

مفارقة النموذج الثالث هذا أنه لا يسيطر على شروط استقراره، رغم أن الاستقرار هو مفخرته. والأهم أن أحدا لم يرغب بهذا النموذج. استقراره رهن توافق عارض بين خصوم متنوعين. هو لذلك نموذج انتقالي في أرجح تقدير.

في وسعنا تأمل نموذج رابع يقوم على عدد قليل من الافتراضات. أولها أن العودة إلى نموذج الصراع على الشرق الأوسط غير مرغوب، وليس فقط غير ممكن. فقد سمم العلاقات بين شعوب المشرق وليس بين دوله. وكان مشروطا بالتوازن الدولي على مستوى القمة، ثم بعملية مدريد حتى وفاة الرئيس حافظ الأسد عام 2000. وكان مقترنا في الداخل السوري بتسلطية غير محدودة (تقصى برهان غليون هذا النموذج مؤخرا، في ورقة له مهمة بعنوان «السياسة الخارجية السورية أو نهاية الحقبة الامبراطورية»). الافتراض الثاني أن نظاما يوفر قدرا أكبر من الحريات، لكن أيضا مواطئ أقدام لقوى إقليمية ودولية، ينبغي أن يكون غير مرغوب أيضا. فهو سيحرق المعارضة على مذبح عدم الاستقرار الداخلي.

في مضمونه الإيجابي يمكن للنموذج الرابع أن يقوم على شراكة اقتصادية وأمنية إقليمية، موجهة نحو تقاسم المنافع والازدهار المشترك، وتلتزم بمبدأ سيادة الدول القائمة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ليس في هذه الأسس ما هو جديد أو مبتكر. فالأمر بكل بساطة يتعلق بتطبيع سورية في محيطها الطبيعي على أسس مقررة في العلاقات الدولية. وستضمن سورية استقرارها وتطورها بقدر ما تنخرط في محيطها وتسترخي فيه، أي تشعر بانتمائها له. وانخراطها الإيجابي في محيطها هو ما يقوي موقعها في المطالبة بالجولان ومحاصرة الاستثناء الإسرائيلي الشاذ. بالعكس، من شأن انعزالها عنه أن ينعكس عليها توترا وعزلة ونزع استقرار، دون أن ينفع في تقييد نزعة الهيمنة الإسرائيلية.

ولعل تطبيع سورية يتطلب تجاوز النموذج القومي العربي للعلاقات العربية، وقد جمع بين أخوة نظرية مطلقة مع الدول العربية وعلاقات متوترة لا تستقر على حال منذ 45 عاما. هذا النموذج الفكري متجاوز واقعيا. فعلاقات سورية، خلافا للنموذج، مستقرة على نسق عقلاني ولا إيديولوجي مع تركيا غير العربية. وهي، تنتقل من متوترة مع الدول العربية إلى صحبة مع منظمات ما دون الدولة. يلزم تجاوز النموذج القومي فكريا. وإعادة هيكلة الدور الإقليمي السوري باتجاه شراكة أمنية واقتصادية، وتطبيع سورية كدولة في محيط من الدول، هي الأسس التي قد يبنى عليها نموذج فكري موجه للسياسة السورية في المرحلة القادمة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)