هناك شكوك واضحة فيما إذا كانت الإدارة الأمريكية تعرف تماما ما تريده من سورية، فحتى بعد احتلال العراق كان هناك مجموعة من المطالب التي شكلت "عقابا" أكثر من كونها رؤية أمريكية تجاه سورية، فالأمر الوحيد الواضح أن واشنطن وطوال إدارة بوش كانت تريد "تغيير السلوك" السوري، لكنها لم تكن تعرف بالضبط نوعية السلوك المقبول الذي يمكن أن يصبح مفيدا للولايات المتحدة في حربها داخل العراق.

بالطبع فإن إدارة بش كانت تعرف أمريم أساسيين ضروريين للضغط على سورية، أو للحد من نفوذها الإقليمي:

 الأول إخراجها من لبنان، وبالتالي الحد من قدرتها على التحرك ضد "الدولة العبرية" من جهة، وجعل لبنان ساحة مفتوحة عربيا ودوليا بشكل يزعج دمشق. وهذا الأمر الذي تم سريعا بعد احتلال العراق خلق واقعا استراتيجيا جديدا لم يخفف من "النفوذ" السوري حسب ما تقوله الإدارة الأمريكية نفسها التي تطالب سورية دائما بالكف عن التدخل في الشؤون اللبنانية. فما تواجهه الإدارة الأمريكية اليوم هو فرز جديد أدخل عوامل إضافية للمعادلة الإقلمية مثل مسألة "النفوذ" الإيراني. ويبدو ان الولايات المتحدة اليوم لا تملك تصورا حول "سد الفراغ" وهي النظرية الشهرية التي ظهرت بقوة عام 1965 بعد تراجع النفوذين البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط.

 الثاني خلق تناقض إقليمي مع المحاور التقليدية التي شكلت عامل توازن حتى في أشد الأزمات، وهذا الأمر استطاعت تحقيقه من خلال الخلافات الظاهرة أو المستورة التي برزت بين دمشق والرياض، أو "اعتكاف" القاهرة عن التشاور الدوري مع سورية خلال الأزمات.

عمليا فإن الولايات المتحدة بعد خرقت التوازن الإقليمي باحتلال العراق لم تعد تواجه مشكلة "عسكرية" بالمعنى الدقيق، إنما تضارب سياسي ربما يكون متوقعا ولكنه يحد من قدرة "الرسم" الأمريكي لسورية. فالتحليلات التي صدرت منذ ثلاث سنوات وحتى اليوم كانت تتحدث عن تبديل الدور السوري في المنطقة، لكن الواضح اليوم أن المسألة أعقد فقط من عملية "التبديل" لأنها تسير نحو:

 التشتيت السياسي بالدرجة الأولى، فرغم أن الاتهامات حول خسارة المعارك السابقة يتم إلحاقها بـ"الأنظمة السياسية" لأنها استطاعت عزل المجتمعات عن الحراك السياسي، لكن الإدارة الأمريكية قامت بأكثر من عملية العزل، في هي استطاعت تكسر الرؤية العامة التي كانت تجمع على الأقل "النخب السياسية" وحولتها إلى قضايا مختلفة. هذا الأمر ينطبق على سورية التي تجد نفسها اليوم في موقع تجاهد فيه من أجل قضايا الخاصة على أقل تقدير، وفي نفس الوقت فإنها ضمن هذا الخط مضطرة لتبرير خطواتها لدول الجوار بالدرجة الأولى. فالاعتداء الإسرائيلي الأخير سرعان ما تحول إلى قضية ضد سورية دون ان يأخذ منحا إقليميا متعلقا بـ"الدولة العبرية" أو باحتمالات الكارثة في حال حدوث حرب جديدة في المنطقة.

 التخويف من "الصراع" على أنه يجر حربا إقليمية مركزها إيران بالدرجة الأولى، وربما تنطلق شرارة الحرب من "الدولة العبرية"، وهذا الأمر يعتبر حساسا بالنسبة لسورية، فإذا تمت مهاجمة سورية فلأنها "حليف إيران" وليس لأنها الدولة الوحيدة التي بقيت دون "اتفاقات سلام" مع "الدولة العبرية"... هذا الأمر تمت تجربته مع حزب الله وحماس، حيث يتم تصوير الحرب عليهما من منطق "التطرف" أحيانا، أو لأنهما حلفاء إيران أحيانا أخرى.

الولايات المتحدة اليوم لا تسعى لعزل سورية، لكنها أيضا تريد تشتيت "قضاياها" الخاصة، وتحوبلها لمساحة إقليمية وهمية، فتجد دمشق نفسها في أي مواجهة قادمة وكأنها تخوض حربا لا تخصها أو تحاول حماية مصالح أخرى لا تمس الدولة والمجتمع السوريين، فالحرب على سورية اليوم هي من نمط خاص أوسع من الحالة العسكرية لأنه لا يريد تبديل الأدوار أو تغيير السلوك بل تغيبها من معادلة التوازن الإقليمي كما تفهمها الإدارة الأمريكية.