أغلب الظن أن بعض الأكراد العراقيين أهدروا كل تضحياتهم على مدى عقود في مواجهة القمع البعثي، وضيّعوا كل تعاطف مع حقوقهم ما أن وقفوا ليصفقوا لمشروع تقسيم العراق «غير الملزم»، الذي تبناه شيوخ أميركا. لقد سقطوا سريعاً في فخ هؤلاء الشيوخ الذين أثبتوا اخلاصهم لـ «عقيدة» دوغلاس فيث وبول وولفوفيتز ودونالد رامسفيلد، بعدما بدا أن المحافظين الجدد ومدرستهم المخرّبة لسياسة الولايات المتحدة وشعبيتها في العالم، تواروا الى غير رجعة.

واذا كان الدواء القاتل الذي قدمه مجلس الشيوخ الأميركي، وصفة لوقف القتل في بلاد ما بين النهرين، أشبه بجريمة بلفور الذي أعطى ما لا يملك لليهود الذين لا حق لهم في أرض فلسطين، فالتاريخ سيسجل لبعض أكراد العراق أنهم دقوا مسماراً كبيراً في نعش وحدة البلد، ما أن لاحت «فرصة» لتقسيمه، يبررونها بذريعة الفيديرالية.

... ويبررونها أيضاً بلغة الواقعية، مما لا قِبَل للرئيس الصديق جلال طالباني بتحمل عبئه في عهده الذي سيوصف بعهد الرئيس الأخير للعراق الموحد، بعدما كابد الكثير من أجل مصالحات بين السنّة والشيعة، ولوقف «التطهير العرقي».

ولا قِبَل أيضاً للزعيم الكردي الصديق رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني، بتحمل وزر تحويل الاقليم الى رأس حربة في مشروع تفتيت البلد والذي سيطلق شرارة الفتن والحروب في كل المنطقة. يكفي أن يدرك الأكراد أن وحدة الدولة العراقية هي مظلة الحماية لهم، من غضب الجارين التركي والايراني اللذين سينقضان على أي كيان يمكن أن يشكل قاعدة انطلاق نحو دولة الأكراد «الكبرى»... وأن سور الغيتو لن يقيهم من نار الانفجار، حين تسعى «دولة العراق الاسلامية» الى قضم ما حولها، ويغرق الجميع في أتون الصراع على «الحدود» والممرات والآبار.

إن خطورة الجريمة التي يرتكبها شيوخ أميركا، وتستحق عن جدارة تسمية أم الفضائح، بعد كل ما عاث به الاحتلال، تكمن في اللحظة التاريخية التي يرتسم فيها أكثر من مشروع حرب اقليمية على تخوم العراق، قابلة للتمدد الى أوصاله سريعاً، حيث للولايات المتحدة عشرات الآلاف من الجنود الذين سيكونون هدفاً اذا كررت واشنطن مع ايران سيناريو تدمير يوغوسلافيا.

والحال أن نقل «البلقنة» الى العراق، يستتبع تعميم «العرقنة» في المنطقة التي باتت محاصرة بين فكي كماشة: أميركية وإسرائيلية، لكل منهما مصلحة في نزع المخالب الايرانية «النووية»، خصوصاً مع تمدد النفوذ الايراني من الخليج الى العراق ولبنان وسورية وفلسطين. النفوذ ذاته هو الفك الثانية التي باتت تضغط على ما تبقى من النظام الأمني العربي، بعد «استدراج» سورية الى مشاريع طهران وطموحاتها، واستغراق سورية في السباحة في مياه الجمهورية الاسلامية.

وبين الانذارات الاسرائيلية المتكررة «خطأ»، بعد ما تسرّب عن «غارة» جوية على سورية، ومؤشرات الى ان الغرب حسم أمره بتأييد الأميركي حتى النهاية، لمنع طهران من امتلاك القنبلة النووية، يبدو خريف المنطقة الموعودة بمؤتمر للسلام الفلسطيني – الاسرائيلي، أبعد ما يكون عن ربيع التسويات. فلا الأميركي يتعلم الدرس لتفادي هزيمة أسوأ بكثير من تجربة فيتنام، ولا الايراني يكترث للأثمان التي ستدفعها المنطقة، طالما أنه لن يحارب على أرضه فقط: أليس قادراً على الرد من غزة ولبنان والعراق؟ أوَلا يعتبر لبنان حديقة «خلفية» لأي مواجهة اسرائيلية - سورية؟

مع قرع طبول الحرب يتقدم «اقتراح» تقسيم العراق، عيّنة لما قد تكون عليه خريطة المنطقة، فيما مأزق تفوق القوة الاسرائيلية يرجح تسريع مخططات التفتيت والشرذمة. وإن كانت الدولة العبرية ومعها اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة عجزا حتى عن تحمّل وهم امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل، هل يمكن أن يتعايشا مع ايران نووية، يدور في فلكها مَن يدور في غزة ولبنان والعراق، وعلى كتفها سورية؟

إن ادارة الرئيس جورج بوش ستبقى رهينة عقدة الثأر، ولو تركت وراءها أميركا مهزومة. واذا كان 11 أيلول (سبتمبر) كلّف الولايات المتحدة حربين، أي ثمنٍ لكبوتها في العراق؟ يقول الصحافي سايمور هيرش: «نحن الأميركيين لا نتعلم الدرس»، ويؤكد أن بوش هو الذي صادق عملياً على سياسة «تطهير عرقي» في ذلك البلد.

هم لا يتعلمون، ويتناسون أيضاً أنهم هم الذين «طهّروا» الجيش العراقي من جنوده وضباطه، وسهّلوا التغلغل الإيراني في العراق وغيره، ثم يسألون العرب لماذا تسكتون عنه؟!

تطهير... تقسيم، ومشاريع حروب للتقسيم

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)