أحرقوه .. احرقوه مرات . مرة من الخارج ومرة من الداخل ... مرة بالاجتياح ومرة بالعدوان . مرة بالسلاح ومرة بالمتفجرات ... مرة بالاحزان ومرة بالاحقاد ... مرة بالشتائم ومرة بالاغتيالات ... غمرته غيوم سوداوية السياسة ، فجاهد للتنفس والحركة ، ولم تستطع رغم كل ذلك خنق روحه . فقذفوه بالنار الفعلية ، اشعلوا قراه ومدنه لتدخل خمسون منها عالم الدخان ، يقطعها عن الماء والكهرباء يجبر اهلها على النزوح ، ليلفه كله ضيق النفس البيئي. النار الفعلية ، الحرائق المادية ، حصدت صنوبره وزيتونه ، بيوته وحقوله وغاباته ، واذا بلبنان الاخضر الذي طالما غناه المغنون والشعراء ، لبنان المشتعل في جباله ، الملوث في مدنه . لتنضم اليهم بقاياهم من قذائف الحرب المزروعة في الغابات ، نارا كامنة انتظرت فرصتها للتفجر والحرق ، لكأنها الاحقاد التي كمنت في صدور البعض وانتظرت بدورها حتى تلامسها نار خارجية.
اية مفاجآت يمكن ان تحملها لنا الايام المتبقية على الاستحقاق الرئاسي؟ واي ابتكار اخراجي للموت سيعيشه اللبنانيون ان لم يتنازلوا عن حقهم في مقاومة المخطط الاميركي - الاسرائيلي ، اذا لم يتخلوا عن عنادهم في الالتفاف حول هذه القيادة او تلك ممن لا يرضى عنهم سادة الشرق الاوسط الجديد ، الذي لم تنجح اية قابلة في اخراجه الى الحياة على اية ساحة اخرى ، فاصرت ابلة كوندي على ان تستولده في لبنان.
واذ لم يجمع اللبنانيون على الزغردة لمولده المنشود ، اصر المتشوقون لوجهه الغالي على ان يغمروا البلاد بالنواح بدل الزغاريد . اما السؤال عن : كيف ؟ فلا معايير محددة للاجابة . لا معيار لمن يقتل ولا معيار لمن يقتل ، ولا معيار لوسيلة الموت ... التي يأتينا اخرها عبر الحرائق الممتدة من الشوف الى المتن الى عكار ، باختصار الى المناطق الكثيفة الاحراج ، والمختلطة السكان ، سياسيا وطائفيا ، بحيث يتعذر توجيه الاتهام لهذه الفئة او تلك . مما يفسر استثناء بعض المناطق الصرفة . هكذا تلقى لبنان الرسالة الملغومة ، كما كان يحصل مع المقاومين في السبعينات ، مع فارق النسب .
وتمكنت من اصابته في وجهه وصدره ، دون ان يحمل الى المستشفى ، ودون ان ياتيه الاسعاف اللازم ، لان رئيس الوزراء مشغول بجولات خليجية تهدف الى تنسيق المحافظة على وضعه ووضع جماعته في المعركة الرئاسية ، ومثله يحزم سعد الحريري حقائبه للسفر الى واشنطن واحتراق الوطن لا يستحق ان يحزم الاول حقائبه عائدا ولا ان يفكها الثاني مؤجلا سفره . فالرئاسة اهم من الوطن ، واحتراق ورقة اللعب فيها اهم من احتراق البلاد والعباد.
اما التفسير واكتناه ما وراء الحريق ، فامر لن يبقى طويلا في ضمير التقديرات. منها من يربط الامر بكشف مساحات معينة من الاراضي ، اما لجعلها واضحة امام الطيران وامام اقمار الاستطلاع والتجسس. واما لمنع عناصر فئات معينة من التدرب هنا ، او لمنع المسلحين او الاهالي من الاختباء هناك في حال تفجير الوضع في البلاد. ومنهم من يربطها بازمة البنزين وهو ربط يبدو سيرياليا.
ومنهم اخيرا من يضعها ببساطة في موقعها على خريطة التخريب والبلبلة التي لن تترك للناس وعيا ولا استقرارا. مثلها مثل مسلسلات التفجير والاغتيالات ، مع فارق الاخراج والاهداف المباشرة. ومنهم اخيرا من يصنفها كعملية انتقام بعد احداث البارد.
فهل تكون الخلايا النائمة ، هي القنابل الموقتة التي فجرت حين ازف موعدها لاشعل البلاد ، خلايا لا تتوقف نسبتها على فتح الاسلام ، بل تتوزع على جهات مختلفة تتشعب وتتشعب ليلتقي خيوطها كلها في النهاية في يد واحدة.

مصادر
الدستور (الأردن)