تعلمنا من تجاربنا القاسية في لبنان درساً بليغاً مؤداه: أن الإنسان، في حال واجه مشكلة وقضية، غلبت المشكلة في نفسه على القضية. ونستحضر مصداقاً لذلك مثالاً من الواقع فنقول: لا تسلْ أماً تبحث عن قوت لطفلها كيف تُحرر القدس؟ فجوابها سيكون ببساطة: هاتِ قوتاً لطفلي. إن تحرير القدس قضية قومية مركزية، ولكن همّ الأم إزاء جوع طفلها يَغلب في نفسها على أية قضية.

هذه الحقيقة يستغلها حكامنا في إحكام سيطرتهم على شعوبنا، كما تستغلها قوى الشر دولياً في التحكم بمصير أمتنا ومسار حياتنا.

هذا الواقع يساعد على إلقاء الضوء على كثير من القضايا التي نرزح تحت وطأتها إذ يُراد لنا أن ننشغل بمشاكلنا عن قضايانا. لعل في هذا سرّ ما يدور في العراق من مآس ومحن.

ولعل في هذا سرّ ما كان بين الأخوة في فلسطين من نزاعات آلت إلى فصام خطير بين قطاع غزة والضفة الغربية، إذ سيطرت حركة حماس على قطاع غزة واحتفظت السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح بالضفة الغربية، فلم يعد بين أبناء الشعب الواحد سلام ولا كلام ولا أي شكل من أشكال التواصل البناء. فحلّ الفصام محلّ النضال، وحلت المصالح الآنية محل المصالح الوطنية والقومية.

ولعل في هذا سرّ ما يدور على الساحة اللبنانية، فإذا بالخصومات السياسية تحتدم إلى أبعد الحدود وإذا بمسلسل التفجير والاغتيالات يتواصل من دون انقطاع وإذا بالحركة الاقتصادية يحل بها الركود فتشارف على الشلل، وإذا بالبطالة في صفوف اليد العاملة تتفاقم، وإذا بهجرة الشباب إلى الخارج تتصاعد، وإذا بالتضخم يستشري غلاءً.

وفي بلد عربي كبير تشتد حال الفقر بين عامة الناس وتذر حال الاضطراب السياسي بقرنها في الحياة العامة فإذا بالهوة تتسع بين الحاكم والمحكوم وإذا بحركات الاحتجاج تنشط وإذا بالحريات تقمع.

وفي أقطار عربية أخرى تستثار الحفائظ الطائفية والمذهبية والعرقية، فإذا بهاجس الاضطراب بين فئات الشعب الواحد يتنامى، وأخذ هاجس اجتياح تيارات فئوية وافدة من الخارج يتعاظم ولو وهماً.

هذه الهموم والهواجس التي تعتمل في حنايا وثنايا المجتمعات العربية إنما هي مفتعلة، وراءها مدبّرون من الخارج، والقصد هو إلهاء المواطن بمشاكله عن قضاياه. ففي غمرة كل هذه المشاكل والشواغل انصرف همّ المواطن عن قضية فلسطين، ولم يعد يعي حجم الخطر الصهيوني الرابض على حدوده، وتاهت عنه مصالحه القومية فما بقي في حساباته متّسع لاعتبارات تتصل بشؤون التضامن والتكامل والوحدة أو بمصير الأمة ومكانتها وكرامتها، أو بالرسالة الحضارية التي يفترض بالأمة أن تضطلع بها على المستويين العالمي والإنساني.

هكذا شغلوا الإنسان العربي بهمومه عن شؤون مصيره. هكذا غلبت المشكلة في نفسه على القضية.

المنطقة مسرح لصدام بين محورين: محور سوريا وإيران من جهة ومحور أمريكا و”إسرائيل” من جهة أخرى. والولاءات في لبنان للأسف الشديد موزعة بين المحورين. ولكن اللافت هو الدور الذي تتولاه الدولة العظمى كما يتجلى بوضوح ما بعده وضوح في غزو العراق والإمعان في تمزيق شعبه وإثارة الفتن بين فئاته، وتعطيل آليات التفاعل البناء والتواصل الحضاري بين أبناء الشعب الواحد، والتمادي في تدمير المنشآت والمرافق وحتى الأحياء السكنية، والضلوع في تبديد الثروات العامة وتسييب الموارد الوطنية. وأخيراً أميط اللثام عن المشروع بقرار من مجلس الشيوخ الأمريكي. إنه تقسيم العراق كيانات مذهبية وعرقية تحت لافتة الفيدرالية، وذلك خلافاً لإرادة الشعب العراقي. وهذا ما يتجلى في ما فعلت الدولة العظمى وتفعل في دول فقيرة مثل أفغانستان، بما كان من قتل وتشريد وإفقار وتبديد.

وهذا ما يتجلى في سياسة الدولة العظمى وحلفائها حيال بلدنا لبنان. العدو الصهيوني رابض على حدودنا الجنوبية يتربص بنا شراً، يعتدي على أرضنا ويخترق أجواءنا ويحتل مساحة من ترابنا ويحتجز عدداً من مناضلينا. وهو في كل ذلك يحظى بدعم مطلق من الدولة العظمى سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً ومادياً وحتى عسكرياً. وشهدنا عيّنة من هذا الانحياز السافر أبّان الحرب الغاشمة التي شنتها “إسرائيل” على لبنان في صيف العام 2006.

قدر بلدنا الصغير أن قيمته الاستراتيجية تفوق كثيراً حجمه الجغرافي أو السكاني، الأمر الذي جعله عرضة للتدخلات الخارجية من كل صوب. فالقوى الخارجية تتدخل اليوم في شؤوننا الداخلية على وجه ينذر بتعطيل الاستحقاق الرئاسي الذي نشعر أن مصيرنا الوطني يتوقف على مآله. إن السفير الأمريكي في لبنان يدعو إلى انتخابات حرّة بمنأى عن أي تدخل خارجي. وهذا موقف إيجابي نقدّره. ولكن الإدارة الأمريكية تبنت، بلسان أرفع المسؤولين فيها، الحكومة المختلف عليها داخلياً، فحالت دون قيام حكومة وحدة وطنية لتحل محلها فتطمئن المواطن اللبناني إلى مصيره. أليس هذا تدخلاً في شؤون لبنان الداخلية؟

كانت هناك محاولات ومساع داخلية لتأمين عبور سليم للاستحقاق الرئاسي، أبرزها مبادرة رئيس مجلس النواب لتأمين التوافق على هوية الرئيس العتيد للجمهورية. وإذا كانت المبادرة لم تُؤتِ ثمارها حتى هذه اللحظة فذلك عائد، كما بات من المسلمات، إلى أن قرار بتّ المسألة هو في واقع الحال خارجي، ويبدو كأن هذا القرار لم يصدر بعد، أو أن القرار قد يكون بعدم انتخاب رئيس توافقي ضمن المهلة الدستورية. عند ذاك يكون الفراغ وتكون الكارثة.

بعضنا يحاول التخفيف من غلواء الخطر الماثل بالتساؤل: هل من مصلحة الخارج أن يقع لبنان في حال من الفوضى إذا ما تعذر إنجاز الاستحقاق الرئاسي؟ الجواب للأسف قد لا يكون في مصلحتنا إذا ما تذكّرنا أن السياسة الخارجية المعلنة من جانب الإدارة الأمريكية تقوم على السعي إلى إقامة ما يسمى شرق أوسط كبيراً أو جديداً، والطريق إليه هو ما يسمى، ويا للمفارقة، الفوضى الخلاقة. والشرق الأوسط الجديد، إذا ما استقرأنا ما يدور في العراق، إنما هو مشروع تفتيت للشعوب والكيانات العربية. أما الفوضى الخلاقة فبدعة فاضحة. فكيف تكون الفوضى إلا هدّامة، اللهم إلا في معيار خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وهو هدّام؟

إننا لا نرى فارقاً، ولا حتى في التفاصيل، بين استراتيجية أمريكا واستراتيجية “إسرائيل” في الشرق الأوسط. إنهما متطابقتان. لذا لا غلو في القول إن حلفاء الإدارة الأمريكية من اللبنانيين هم، في يقيننا من حيث لا يدرون أو لا يريدون، في واقع الحال حلفاء الكيان الصهيوني في سياسته المدمّرة.

نقول هذا ونردف القول إن حرب “إسرائيل” على لبنان في صيف العام 2006 قد تكون قد أحدثت تبديلاً جذرياً في معطيات الصراع العربي - “الإسرائيلي”، بمعنى أنّنا قد نكون قد شهدنا آخر الحروب العربية - “الإسرائيلية”. قد لا يكون ثمّة حرب عربية - “إسرائيلية” بعد اليوم مع استمرار الصراع العربي - “الإسرائيلي”، وستكون الكلمة في الجانب العربي للمقاومة وليس للحرب. وقد تكون المقاومة مسلّحة أو غير مسلّحة.

بيننا من جعل ديدنه رفض عودة الوصاية السورية. نحن مع هؤلاء بلا أدنى مواربة. ولكننا نرفض أيضاً أية وصاية أخرى. لا لوصاية أمريكية ولا لوصاية فرنسية ولا لوصاية شرقية أو غربية، أو حتى أممية. ويهمنا تصحيح العلاقة بين الشقيقين الجارين وتنميتها، بالطبع على قاعدة التكافؤ والاحترام المتبادل.

يهمنا التذكير في هذه المناسبة بأن مطلب حكومة الوحدة الوطنية الذي كنا نلحّ عليه ليس مطلباً ديمقراطياً. ففي ديمقراطيات العالم هناك أكثرية تحكم وأقلية تعارض. أما في لبنان فلا يصحّ الحديث عن وجود نظام ديمقراطي حقيقي. فقانون الانتخاب لا يضمن ممارسة ديمقراطية حرّة، إذ يطلق العنان لتحكّم منطق المحدلة في ظل النظام الأكثري المعتمد، وهو لا ينص على ضوابط لفعل المال السياسي الجامح ولا لتحكم الإعلام والإعلان الانتخابيين علماً بأن زمامهما في قبضة قلة من المتنفذين والمتمولين. إلى ذلك فإن ثقافة المجتمع الديمقراطية مشوبة بتراث من الممارسات والأخلاقيات والذهنيات غير المؤاتية. إننا نأمل بعهد جديد يحرص على سن قانون انتخاب جديد كلياً، يكون مفتاحاً لإصلاح سياسي فاعل ومقدمة لإصلاح شامل. عند ذاك، مع اجراء انتخابات نيابية تجدد الحياة السياسية، لن يكون مطلب حكومة الوحدة الوطنية طبيعياً. فالطبيعي ديمقراطياً أن تحكم الأكثرية وتعارض الأقلية.

نختتم بالقول: لا خيار أمامنا سوى العمل على عبور الاستحقاق الرئاسي بسلام، أي بانتخاب رئيس توافقي، على الرغم من كل الصعاب، متجاوزين البعد الخارجي في قرار الانتخاب مهما كانت التحديات. هكذا نثبت أننا شعب يقبض على زمام أمره بيده، وأننا تالياً شعب جدير بالحياة. وفي انتظار تحقيق المبتغى نرجو أن يبادر المعنيون من الجانبين إلى إنهاء الاعتصام في وسط العاصمة وإزالة المربعات الأمنية في أحجامها المبالغ فيها.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)