الأنباء المتواردة، والرسائل الإعلامية المبطنة، والمصادر التي لا تكشف عن اسمها، والتي تبشر بـ«إمكان العــودة إلى المفاوضات»، لا تجد أهمية لدى سكان الجولان المحتل. فهم يؤمنون بأن المفاوضات في «الحال الإسرائيلية» صارت مثل قنابلهم، تنفجر حينما يشاؤون

السكــان لا يهتمّــون بحديــث المفاوضــات: القضايــا تحلّهــا حــرب مقبلــة
يقول رجل من سكان قرية مجدل شمس «تخيل أن النقاش حول العودة إلى المفاوضات استغرق سنوات. وإسرائيل تعرقل وتعرقل. تخيل الوضع حين ستفاوض اسرائيل على المستوطنات والمياه والحدود النهائية. سنموت ولن يتغير شيء».
ويشير صاحب محل للمدفّئات الشتوية في مجدل شمس «إن اللبيب من الإشارة يفهم. القضايا لن تحلّها المفاوضات، ستحلها حرب مقبلة».
من ينظر في عيون الجولانيين حين يخوضون غمار «الحل المرتقب»، يرَ شحوباً بلون الهمّ. فمن ينظر إلى حال الجولان اليوم والتعنت الإسرائيلي، من يرصد في ذهنه تاريخ المكان ويستمع إلى شعور الناس على اختلاف تفكيرهم، يدرك أن الحال معقدة أكثر بكثير من أخبار عن مناورات عسكرية هنا أو هناك.
من يشاهد البوابة الكهربائية ورجال الأمن على مدخل موقع «قلعة النمرود» الأثري، الواقع في الطريق المؤدية إلى بلدات الجولان السوري المحتل، وتلك اللافتة الخضراء، المكتوب عليها تسعيرة الدخول بالعبرية، يدرك أن الهيمنة وصلت إلى حد التذويب. وطال الاحتلال كل شيءٍ إلى أن صار جزءاً من «المناطق السياحية». وصارت منتجعات الجولان المحتل الموجودة في مستوطناته «مكاناً للترفيه».
حال معقدة، يتداخل فيها تاريخ ناس وحربان، تبدأ من تدمير القنيطرة وتمرّ عبر مصادرة مياه وثروات طبيعية وزراعية، وشرعنة الهيمنة والسيطرة. هناك من الإسرائيليين من لا يريد أن يصدق أن الجولان محتلّ بالفعل.

... والماء أيضاً

بعد حرب حزيران، سعت السلطات الإسرائيلية إلى إعلان السيطرة على أراضي الجولان السوري المحتل. وأعلنت الأراضي المتروكة «أموال غائبين» بلغة الهيمنة الاسرائيلية، استولت السلطات عليها، وبدأت ممارساتها واستجلبت المستوطنين مباشرة، وبدأت العمل للاستيلاء على الثروات الطبيعية، واضعة نصب عينيها مصادر المياه.
أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي أمراً في آذار 1968 يقضي بتعيين مسؤول له الصلاحيات المتعلقة بأعمال المياه، لضمان السيطرة على مصادرها الموجودة في الجولان.
جاء في النص: «لا يجوز لأي شخص أن يقوم ولا أن يتسبب بالقيام بأعمال المياه، أو بأي منها، إلا بموجب ترخيص جدي صادر عن المسؤول ووفقاً لشروط الترخيص».
واليوم، يستولي المستوطنون على 76 مليون كوب من الثروة المائية في الجولان، فيما يستفيد العرب من ثلاثة ملايين كوب
فقط.
ولم تنته القضية هنا، ففي الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1981، اتخذت السلطات الإسرائيلية قرار «ضم الجولان». وسعت إلى فرض الجنسية الإسرائيلية على السكان السوريين.
رفض الجولانيون هذا القرار وأعلنوا احتجاجهم إلى أن أعلنت السلطات الإسرائيلية في آذار من عام 1982 عن الجولان منطقة عسكرية مغلقة، وفرضت حظر التجول على قرى الجولان. كان منع التجول جائراً، ومنع سكان الجولان حتى من النظر خارجاً، وجال مستخدمو السلطة على البيوت وأجبروا المواطنين على تسلّم الهويات الإسرائيلية.
بعد ثلاثة أيام، خرج المواطنون السوريون إلى ساحات قراهم وأحرقوا الهويات الإسرائيلية وأعلنوا الإضراب المفتوح. استمر الإضراب خمسة أشهر وستة أيام إلى أن تعهّدت السلطات الاسرائيلية كذباً بالتراجع عن فرض الجنسية، إلا أنها فرضت الهوية في ما بعد، ومنحت سكان الجولان وثائق سفر، إلى جانب «الجنسية».

نقطة مهجورة

الملامح العسكرية جزء من المشهد الجولاني. صحيح أن حشود الجيش والطائرات لا تُرى، لكن هناك علامات ثابتة ودائمة تشير في كل الأزمان إلى أن هذه المنطقة عسكرية. شمال قرية بقعاتا، وفي ما يسمى «سدر العروس» (يسمّيه اليهود تل الكروم)، وفي إحدى النقاط العسكرية الإسرائيلية الثلاث التي أخليت في عام 1974، لا تزال ملامح العسكرة قائمة: أكياس رمل للدفاع، ومنظار حديدي صدئ يطلّ شرقاً على امتداد سهل الزاوية وسهوب حوران ومزرعة بيت جن في منطقة الجولان السوري المحرر.
درجات حديدية تؤدي إلى أنفاق تحت الأرض. منها ما يؤدي إلى لا مكان، ومنها ما يؤدي إلى طاقات تطل على الفضاء الواسع. الأنفاق اليوم معتمة وخالية من أي تقنيات، مجرد امتدادات باطنية قد تكون خطرة وأحياناً خانقة لمن يعاني ضيق التنفس.
سكان الجولان القدماء، ومن يعرفون التاريخ، يدركون أن هذه الحجارة المنثورة في القاعدة العسكرية، يعود أصلها إلى مدينة «شهبا»، عاصمة روما الشرقية، وهي مدينة في حوران تمتاز بعمارة حجر البازلت، أتى بها الاحتلال من حطام القرى السورية التي هدمها بمدرعاته وطائراته، ونصبها في قواعده العسكرية على المرتفعات، لتكون وسيلة الدفاع عنه في وجه السوريين عند المواجهة.
ولا أحد يعلم، ما إذا كانت هذه القاعدة العسكرية ستصبح منتجعاً، ربما لعاشقين يتمتعان بالمشهد الطبيعي، أم أنها ستظل قاعدة عسكرية، دائمة لا تزول.

«طريق السلام»

في نص فصل القوات الذي وقّع في جنيف، وبموجبه أخليت القواعد العسكرية الثلاث لتحل القوات الدولية مكان القوات السورية والإسرائيلية على جانبي الحدود، وردت ملاحظة نصّت على أن ما وُقّع ليس اتفاق سلام، بل «خطوة نحو سلام عادلٍ ودائمٍ استناداً إلى قرار مجلس الأمن الرقم 338 المؤرخ 22/10/ 1973».
لكن الطريق نحو السلام العادل لا ترى. على الأقل في هذه الأيام. فقضية الجولان السوري المحتل، مثل كرة ثلج، تكبر من عام إلى آخر، وتتعقد تفاصيلها، وهو ما يطرد الأمل من بعض السكان السوريين الواقعين تحت الاحتلال، ويجعلهم لا يصدقون أي نية اسرائيلية لحفظ السلام أو البحث عنه.

إلى مسعدة

حقول التفاح تفصل الطريق إلى قرية مسعدة. والتفاح من رائحة الجولان، هو جزء من الطرقات التي تفصل القرى عن بعضها. يستطيع المار بين البلدات أن يوقف سيارته ويقطف تفاحة عن أمها. المشهد لا يزعج أصحاب الكروم، على العكس تماماً، فإذا خجل الضيف من نيل هدية تفاح يتلقى توصية من صاحب البيت: «وأنت خارج من القرية، سترى حقل تفاح على يدك اليسرى، أوقف سيارتك هناك واقطف ما تريد. فهذا الكرم لي، وتحت تصرفك».
في وسط الطريق إلى مسعدة كان لا بد من الاستدلال. وصف شاب جولاني السبيل إلى هناك، تحدث عشر كلمات، أربع منها بالعبرية. لكن، حين تحدثه عن السياسة تشعر بأنه ملتزم بالثوابت. واكتسابه اللغة قد يكون أمراً عادياً بـ «فعل الاحتلال».
يقول أحد الجولانيين من قرية مسعدة إن قضية اللغة وتأثير الإسرائيليين «هو أمر طبيعي لكل شعب يقع تحت الاحتلال. وليس بهذه الأمور ممكن الحكم على القضية، هناك قضايا أوسع. عند ساعة المحنة. نحن سوريون بكل ما تعنيه الكلمة. نحن متمسكون بكل الثوابت الوطنية».
في عطلة يوم السبت اليهودية، يهرب الإسرائيليون من «ضجيج المدن» إلى مناطق الشمال «بحثاً عن الهدوء». لكنهم ليسوا هادئين. تراهم يملأون بعض المطاعم في الجولان، على وجوههم ابتسامة الجائع المستلذّ بالطعام، يأكلون «الأطباق الدرزية»، حسب تعريفهم، ويبحثون عن المميز. وحين يسافرون خارجاً يتحدثون عن الحمّص والفلافل على أنهما «مأكولات اسرائيلية»، على الرغم من أنها موجودة في المنطقة قبل أن يفكر هرتسل بدولة إسرائيل.

«وجودنا مقاومة»
الحال الاحتلالية أنتجت حركة أسيرة في الجولان. سجن أكثر 700 سوري على مدار سنوات مضت. واليوم هناك أكثر من 20 أسيراً في السجون الإسرائيلية، غالبيتهم يقضون أحكاماً تترواح بين عشرين وثلاثين وأربعين عاماً بتهم مقاومة الاحتلال والتعاون مع سوريا.
سلمان فخر الدين، يتحدث عن السجن باعتزاز، عن «مقاومة على خط النار». تجاوز الخمسين بقليل لكنه لا يزال يتذكر أياماً مضت. حين كان عمره 18 عاماً، كان عضواً في «لجنة المطالبة بالتعليم في سوريا». وسجن مرات عدة في بداية سبعينيات القرن الماضي بعد مشاركته في الكثير من التظاهرات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي.
وعن سبب سجنه، يقول فخر الدين «شاهدت حشوداً عسكرية إسرائيلية ومناورات عسكرية، واخترقت الحدود لتحذير الاستطلاع السوري من هجوم إسرائيلي محتمل على سوريا أو لبنان». وأضاف «كنا في تنظيم ترأسه امرأة تدعى كاميليا أبو جبل. هي اليوم دكتورة في التاريخ بجامعة دمشق».
ويروي فخر الدين أنه أطلع «الاستطلاع السوري» على هذه المعلومات، وكان حينها شاباً في السادسة عشرة من عمره. ويقول «لم أكن أعرف أنواع الأسلحة بتاتاً. أطلعني السوريون عن أنواع من الأسلحة لأراها في الصور وأروي لهم ما شاهدت». سجن في عام 1974 وتحرر في عام 1979. بالنسبة له كانت فترة السجن غنية من حيث التثقيف السياسي والتعلم.
ويطل فخر الدين على واقعه اليوم بنظرة لا يمكن احتسابها تقليدية. هو صاحب رؤية خاصة وثاقبة إلى الواقع. لا يقلقه ما يسمّيه البعض «الاندماج» في المجتمع الإسرائيلي، ولا يقبل أصلاً تعريف «الأسرلة». من ناحيته إسرائيل «دولة ترفض الآخر ولن تعمل هي أصلاً على أسرلة الآخر، لذا فالتعبير ليس صحيحاً».
لا يبدو قلقاً أيضاً من الهدوء الذي يسود الجولان: «أنا أؤيد حالة اللاعنف الموجودة في الجولان حالياً. فالمقاومة لا تأتي فقط عن طريق البندقية لأن البندقية إذا فقدت برنامجها السياسي تصبح بندقية لصوص. وهذا ما جرى مع إخوتنا الفلسطينيين». وينهي حديث قائلاً «أنا أرى وجودنا مقاومة».