بشغف وترقب وانتظار تابع الكثيرون الجزء الثاني من مسلسل "باب الحارة" الذي عُرض الجزء الأول منه في رمضان الماضي.. هذه الشعبية التي حظي بها المسلسل تُسجّل له، ولكنها لا تعفيه من عدد كبير من الهفوات والمطبات التي وقع فيها على أكثر من صعيد، وليس المقصود هنا الإخراج والديكور والأداء وغيرها من القضايا التقنية فهذه لها من يختص بها.

ويبدو من البديهي القول إن استحضار التاريخ البعيد والقريب في الدراما التلفزيونية السورية بات يشكل لدى عدد من الكتاب والمخرجين والمنتجين مخرجاً مقنعاً وسهلاً من مأزق مواجهة الدراما المعاصرة وما ينضوي تحتها من قضايا ساخنة وملتبسة. فالمادة التاريخية التي تعالج درامياً تفتح الباب واسعاً أمام الكاتب كي يتناولها و يفصصها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً دون الخوف من مقص الرقيب الرسمي والشعبي الذي ربما لا يعطي أذنه ولا يصوب نظره ويُعمل مقصه إلا فيما يتعلق بالراهن..

وربّ قائل إنه من حق كتاب الدراما اللجوء إلى الماضي وتسليط الضوء عليه، وهذا منطقي بطبيعة الحال، ولكن ذلك يجب أن يكون مرهوناً بتقديم الشرط السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي بنزاهة ومصداقية أولاً، وبمعرفة واطلاع وافيين على الحقبة التي نريد تسليط الضوء عليها ثانياً، كي لا نظلم أنفسنا ونظلم تاريخنا.

دمشق كغيرها من العواصم والمدن المشرقية العريقة التي يمتلئ ماضيها بالقصص والحكايا والأحداث، وهذا ما يمكن أن يشكل مادة دسمة لكتاب الدراما كي يستحضروا تاريخها درامياً ويقدموه للمشاهد دونما أي تشويه لذلك الماضي من جهة، ودونما أي استغباء للمشاهد والتعامل معه على أنه شخص أبله بسيط من جهة ثانية..

المتابع المتبصر لمسلسل "باب الحارة" لا بد له من أن يطرح جملة من التساؤلات، التي يجب ألا يغفل عنها، على الرغم من محاولة المسلسل إعماء الأبصار عنها عن طريق اعتماد التشويق والإثارة لستر عوراته الكثيرة، وهنا يمكن طرح التساؤلات التالية:

1 ـ أحداث المسلسل تدور في فترة الاحتلال الفرنسي، ربما في العشرينات أو الثلاثينات من القرن الماضي، والأمر في حقيقته أنه لولا ظهور العلم الفرنسي في المخفر ولباس عناصر المخفر لما استطعنا معرفة ذلك، ولنتخيل أن ذلك العلم لم يظهر في المسلسل، فمن المؤكد أننا كنا سنتوقع أن الأحداث تدور ربما في القرن السادس عشر أو السابع عشر على أبعد تقدير وليس في القرن العشرين، وهذا الاستنتاج توصلنا إليه المنظومة القيمية والفكرية والتربوية التي يطرحها المسلسل. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنه يحق القول إن أحداث المسلسل تدور خارج الزمان والمكان وبمنطق تخيلي صرف، بمعنى أنها خارج السياق السياسي والثقافي والاجتماعي لمدينة دمشق. أما إذا نسبنا تلك الأحداث إلى ماضي دمشق ففي هذا تشويه لوجه المدينة، وافتراء وافتئات على التاريخ.

2 ـ يعرف القاصي والداني أن دمشق العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي كانت تعج بالكتّاب والشعراء والأدباء والسياسيين والمفكرين، وكانت تعج أيضاً ًبالجمعيات السياسية والأحزاب والمطابع والصحف والمتعلمين من الجنسين، ونعرف كلنا أنه وفي عام 1920 تشكلت حكومة وطنية برئاسة الملك فيصل وتلتها بعد ذلك حكومات خلال تلك الحقبة، ونعرف أيضاً أنه كانت هناك جامعة دمشق ومدارس كثيرة وطلاب علم وو... والسؤال المطروح هنا: من أين جاؤوا لنا بهذه الحارة التي تعج بالقبضايات والعناتر والجهلة والأميين، بعيداً عما كان يدور في المدينة من حراك سياسي وثقافي واجتماعي وعلمي؟!... لا جواب إلا أن تكون تلك الحارة معزولة تماماً عن محيطها، وهذا ما لم تعرفه حارة من حارات دمشق، إلا ليلاً عندما يغلق باب الحارة. ولكن صناع هذا المسلسل أرادوا لهذه الحارة أن تبقى معزولة، وربما لمئات السنين، وبعيداً عن أي مؤثر ثقافي أو سياسي أو علمي!!.

3 ـ الجوانب الخيرة التي يقدمها المسلسل " النخوة ـ الرجولة ـ الأمانة ـ محبة الجار ـ مساعدة المحتاج ـ الدفاع عن الوطن..." لا تعفيه من مسؤولية إغفاله ما ورد في البند ( 2 )، وتلك الجوانب هي في صميم النفس البشرية، ويكاد لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات على مر العصور.. لذلك فإن تقديم ذلك لا يشكل حالة امتياز وتمايز عن المجتمعات الأخرى، خصوصاً وأن المسلسل قدمها في سياق قيمي ومجتمعي غاية في التخلف والرجعية.

4 ـ لم أستطع أن أفهم أنا وكثيرين غيري كيف يمكن لحادثة طلاق أن تشكل تلك الأزمة العصية على الحل وتلاقي كل الاستهجان والإدانة في بيئة اجتماعية كبيئة حارة الضبع تتعامل مع المرأة بتلك الصورة المقززة البشعة والتي لا تميز بين المرأة و "البقجة" التي تحملها إلى بيت أهلها؟!!. واقع الحال أن بيئة اجتماعية كبيئة حارة الضبع مستعدة تماماً لقبول حادثة طلاق مهما كانت أسبابها ومسوغاتها، هذا إن كانت تحتاج إلى مبررات ومسوغات.

5 ـ حشو المشاهد والأحداث غير المبررة في الجزء الثاني من المسلسل بغية إيصاله إلى ( 30 ) حلقة يذكرنا بأحد الأعمال التلفزيونية للفنان دريد لحام حينما يتقمص بطربوشه وشرواله وقبقابه دور كاتب تلفزيوني ويقول للمنتج والمخرج: " معي مسلسل 13 حلقة وإذا بيصفنوا الممثلين شوي بيصير 26 حلقة...". وهذا كان حال الجزء الثاني من "باب الحارة".

يسجّل لمسلسل "باب الحارة" أنه ربما يكون قد حظي بأعلى نسبة مشاهدة على قاعدة "الجمهور عاوز كده" التي أكل الدهر عليها وشرب، ولكن يسجّل عليه اعتماده على استحضار الذاكرة الشعبية بشكل مشوه وقاصر من جهة، والاعتماد على عنصري التشويق والاستثارة لتغطية العيوب من جهة أخرى.

كان الحري بالقيمين على "باب الحارة" أن يتركوه مغلقاً ليل نهار، ويبقوا على أهل تلك الحارة داخل بابها، ويطبّقوا عليهم حجْراً، ليس صحياً، وإنما اجتماعياً.. حرصاً على دمشق لأنها لا تستحق أن نقدمها بتلك الصورة المسخ، المشوهة.