مرّ رمضان في الرياض كالعادة وكأنه حلم , أولاً لسرعته بسبب التسهيلات المختلفة التي تتخذها الحكومة هنا في تقليص ساعات الدوام, وإطالة الليل الذي يمكن فيه ممارسة الحياة وتقصير النهار الذي يقضي الصائمون معظمه في النوم , ثم تأتي المكرمة الملكية في العشر الأخير وتعطّل المدارس والمرافق الحكومية ليتمكن الناس من ممارسة الشعائر المذكورة سابقاً بسلاسة أكثر . وثانياً لأنه مكرر وكأنه يوم واحد لرتابة ساعاته. وثالثاُ لأن مسلسل باب الحارة قد ملأ وقتنا كلّه بأجوائه الساحرة وقيمه المثالية.

باب الحارة 3 ؟

ولقد بشرّنا المخرج الفذّ بسام الملاّ بأنّه يقوم بالتحضير لجزء ثالث من مسلسل باب الحارة , وهذا ما زاد من بهجة العيد هنا في الرياض , فلقد ٌأخذ المتفرجون من كافة الجنسيات بالأجواء " الآسرة" التي عرضتها عليهم حلقات المسلسل , ولا أنسى تعليق صديقتي المصرية الدائم وهي تقول : " آه لو أن الواحدة منا تجد شخصاً مثل " العقيد" في حياتها , إذن لما حملت هم أي شيء في الدنيا ."

وأنا في الحقيقة كنت أحاول بين الفينة والأخرى أن أجبر نفسي على متابعة بعض مشاهد هذا المسلسل الذي سلب عقل الناس , ولكنني لم أتمكن من ذلك . وحاولت أن أنسجم قليلاً مع أجوائه لأشارك على الأقل في التعليق عليه عندما يحتدم النقاش حوله, ولكن عبثاً ! كل ما رأيته كان تكراراً " لتمثيليات " طالما شاهدناها سابقاً لبيوت دمشقية ثرية , ونساء تافهات غير واقعيات , ورجال يبرزون رجولتهم بإطالة شواربههم ورفع أصواتهم , وقضايا زواج وطلاق وإنجاب يتم تفعيلها بطرق دراماتيكية! عدا عن إقحام خلفيات سياسية لا علاقة لها بأي توثيق تاريخي , واختلاق بطولات وطنية محلية لا مجال لمجتمع بهذه التركيبة أن يفرزها.

ومع ذلك , ومع ذلك , فإن الجمهور له ذوقه ورأيه الذي يجب أن نحترمه . فالكل أجمع على أن المسلسل يكرس قيماً هامة لم تعد موجودة في مجتمعنا الحالي وهي على التوالي وعلى ذمة الرواة من مختلف الجنسيا ت العربية :

الكرم ؟ ( دعوات وولائم تطبخ فيها النساء أمام أعيننا مفاخر المطبخ الدمشقي وبتفصيل يدعو إلى المساءلة)

رضى الوالدبن ؟ ( بمعنى أن تقول حاضر ونعم لأوامر أولياء الأمر الذين هم أصلاً جهلة وأميين )

العلاقات الأسرية المتينة ( أم وأخوات تعملن بصفة خادمات , أخوال وعموم يتدخلون في أشياء شخصية لا شأن لهم بها أصلاً ...)

الشهامة ؟ ( قيمة غير محددة الملامح تماماً ولكنها تتمثل غالباً في موافقة الأصدقاء والجيران على مساعدة الفقراء وجمع مبالغ من المال لأحد المعوزين في الحارة والذي لا مبرر لوجوده في مجتمع الملائكة هذا )

الإيمان الديني العميق( متمثلاً بحدوث معجزات آنية أمام أعين المتفرج )

وأضيف من عندي :

الاستسلام ( القضاء والقدر بطلا معظم المواقف)

القمع ( داخل البيت , الأب يسيطر على الأم والأولاد , خارج البيت الأثرياء يسيطرون على مقاليد السوق )

الاستهتار بالسلطة المدنية ( لا وجود لأي إشارة لسلطات أو حكومات محلية أو خارجية وكأن الحارة معلقّة بين السماء والأرض وغير منتمية لأي جهة)

الانغلاق والمحلية ( ونحن بأمس الحاجة لهما في زمن العولمة)

أناشد المخرج أخيراً بصفتي الشخصية أن يكتفي بهذا القدر , وأن يرحمنا في الموسم القادم فالرحمة مطلوبة , وأستحلفه أن يحكّم ضميره المهني ويتفكّر في حكايا جدته قليلاً , أعتقد أنّه استنفذ كل مافيها من قصص وأمثال شعبية وكلمات سوقية أعاد إحياءها وقدّمها لأطفالنا , وأنصحه أيضاُ أن تكون نظرته أكثر استراتيجية إلى التمويل الذي يحصل عليه فالتكرار قد يقضي على آخر آماله في المواسم اللاحقة.