ترجمة جورجيت فرشخ فرنجيّة

العراق «لا يُقهر»، «مستنقع»، «إخفاق تام»: هذا لسان حال الرأي السائد. غير أنّ سبباً وجيهاً يدعو إلى الاعتقاد بأنّ ما ذُكر، من وجهة نظر الثنائي بوش - تشيني، لا يجسّد حقيقة الوضع. حتماً قد تكون الولايات المتحدة «عالقة» تماماً حيث يريدها بوش وآخرون، ولهذا السبب ليس هناك من «استراتيجية للخروج من الأزمة». فالعراق يمتلك 115 مليار برميل من الاحتياط النفطي، أي ما يفوق ما تملكه الولايات المتحدة بخمسة أضعاف. وبسبب عزلته الطويلة هو أقلّ الدول النفطية استكشافاً لهذه المادة، إذ حُفر ما يقارب ألفي بئر فقط في البلاد كلّها، في حين أنّ مليون بئر حُفر في تكساس وحدها.

وقد قدّر مجلس العلاقات الخارجية الأميركية أنّ العراق يملك ربما نحو 220 مليار برميل من النفط غير المكتشَف، فيما رفعت دراسة أخرى الرقم إلى 300 مليار.

إذا كانت هذه التقديرات قريبة من الواقع إلى حدّ ما، تكون القوات الأميركيّة الآن قابعة في منطقة تحوي ربع الموارد النفطية في العالم. أما قيمة النفط العراقي، وهو بترول خام فاتح اللون ذو كلفة إنتاج منخفضة، فستبلغ 30 تريليون دولار بحسب الأسعار السائدة حالياً. ويُذكر، للمقارنة فقط، أنّ الكلفة المتوقّعة لاجتياح/احتلال الولايات المتحدة للعراق تقارب تريليوناً واحداً.

قانون النفط العراقي
من سيحصل على نفط العراق؟ أحد «الاختبارات المعياريّة» التي تجريها إدارة بوش للحكومة العراقية هو المصادقة على قانون يقضي بتوزيع العوائد النفطية. وتتخلّى مسودة القانون، التي كتبتها الولايات المتحدة للهيئة التشريعية العليا العراقية، عن كلّ النفط تقريباً لمصلحة شركات غربية، فتبقى شركة النفط الوطنية العراقية مسيطرة على 17 من أصل 80 حقلاً من حقول النفط الموجودة، ما يترك الباقي - بما فيه النفط الذي لم يُستكشف بعد - تحت سيطرة شركات أجنبية لمدة 30 عاماً.

بعدما سُرِّبت مسودة القانون إلى الإعلام، كتبت المحلّلة أنطونيا شوهاز في صحيفة «نيويورك تايمز» في آذار الماضي: «لن تضطرّ الشركات الأجنبية إلى توظيف أرباحها في الاقتصاد العراقي، وهي لن تستطيع حتى تجاوز حالة «عدم الاستقرار» الحالية التي يعيشها العراق بتوقيع عقود الآن، فيما الحكومة العراقية في أضعف حالاتها، وسيكون عليها الانتظار سنتَين على الأقل قبل أن تطأ أقدامها البلد».

وعندما توقّفت المفاوضات حول قانون النفط في أيلول الماضي، وقّّعت الحكومة المحلية في كردستان اتفاقاً منفصلاً مع شركة النفط المتمركزة في دالاس «هانت أويل»، التي يرأسها حليف سياسي وثيق القربى بالرئيس بوش.

كيف ستحافظ الولايات المتحدة على سيطرتها على النفط العراقي؟ سيتمّ ذلك عبر إقامة قواعد عسكرية دائمة في البلد. وفي هذا السياق، يتمّ الآن إنشاء خمس قواعد عملاقة تتمتّع باكتفاء ذاتي، أصبحت كل واحدة منها في مرحلة مختلفة من البناء. وهي جميعها بعيدة جداً عن المناطق المدنية حيث يموت معظم الجنود. غير أنّ قلّة ثمينة فقط من التحقيقات نُشرت عن هذه القواعد في الصحف الأميركية التي لا يستطيع مراسلوها التجول بحرية بسبب الظروف الخطيرة.

في شباط من العام المنصرم، وصف مراسل الـ«واشنطن بوست» طوماس ريكس إحدى هذه القواعد، وهي قاعدة «بلد» الجوية الواقعة على بُعد أربعين ميلاً شمالي بغداد، بأنها «ضاحية أميركية محصّنة جداً وسط الصحراء العراقية، وتضمّ مطاعم للمأكولات السريعة وملعب غولف مصغَّراً وسينما، وتجاورها مناطق مميزة»، من بينها منطقة «كاي بي أر»، المسمّاة تيمّناً باسم الشركة التابعة لشركة «هاليبورتن» التي قامت بمعظم أعمال البناء في القاعدة. وعلى رغم أنّ عدداً قليلاً من الـ20000 جندي أميركي المرابضين هناك أقاموا اتصالاً مع مواطنين عراقيّّين، تُعتَبر حركة مدرج القاعدة من بين الأقوى في العالم. وقد قال ضابط في القوات الجوية لريكس إنها «تأتي في المرتبة الثانية بعد هيثرو في لندن».

كانت وزارة الدفاع تتكتّم عن هذه القواعد في البداية. فقد قال دونالد رامسفيلد عام 2003: «لم أسمع يوماً، حسب ما أذكر، بمناقشة تتعلق بقاعدة عسكرية دائمة في العراق في أيّ اجتماع». ولكن في هذا الصيف، بدأت إدارة بوش تتكلّم بصراحة على إبقاء الجنود الأميركيّين في العراق للسنوات أو حتى للعقود المقبلة. وأخبر العديد من زوار البيت الأبيض صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ الرئيس نفسه أصبح مولعاً بالإشارة إلى «النموذج الكوري». وعندما صوّت مجلس النواب على منع تمويل بناء «قواعد دائمة» في العراق، اختير مصطلح جديد هو «قواعد ثابتة».

سفارة بمساحة البنتاغون
ولكن هل ستستطيع الولايات المتحدة المحافظة على وجود عسكري غير محدّد الأمد في العراق؟ سوف تدّعي وجود مبرّر، يمكن تصديقه ظاهرياً، لبقائها هناك ما دامت الحرب الأهلية قائمة، أو حتى يتمّ القضاء على كل مجموعة صغيرة تطلق على نفسها، وبشكل يلائم الولايات المتحدة، اسم «القاعدة». قد تفقد الحرب الأهلية من حدّتها تدريجاً مع انسحاب السنّة والشيعة والأكراد إلى مناطق منفصلة، ما يقلّل من مساحة الاحتكاك الطائفي بينهم، ومع تعزيز القادة العسكريّين سلطتهم المحليّة. وسيكون نتيجةَ ذلك التقسيمُ الحاصل فعلياً على أرض الواقع. ولكن هذا التقسيم لا يمكن أن يقوم أبداً على أساس قانوني (فقد تستاء تركيا من وجود كردستان مستقل في الشمال، وإنّ منطقة شيعية في الجنوب قد تصبح تابعة لإيران، ومنطقة سنية مستقلة في الغرب قد تؤوي «القاعدة») وستحكم هذا العراق «المبلقن» حكومة فدرالية ضعيفة في بغداد، تدعمها وتشرف عليها سفارة أميركية بمساحة وزارة الدفاع الأميركية هي قيد الإنشاء حالياً.

أما بالنسبة إلى عدد الجنود الأميركيّين المتمركزين بشكل دائم في العراق، فقد أعلم وزير الدفاع روبرت غيتس الكونغرس في نهاية شهر أيلول، أنّه يعتقد أنّ القوّات التي ستبقى لأمد طويل تتألّف من خمسة ألوية قتالية أي ربع الرقم الحالي، ما يعني أن عدد الجنود سيكون (مع مجموع الموظّفين الذين يوفرون احتياجاتهم) 35000 جندي حدّاً أدنى، وقد يرافقهم عدد مساو من المقاولين الجشعين. (ربما كان يعطي رقماً خاطئاً حياءً، بما أنّ كل واحدة من القواعد العملاقة الخمس تستطيع أن تضم ما بين عشرة وعشرين ألف جندي).

ستغادر هذه القوّات قواعدها أحياناً لإخماد المناوشات المدنية فيما ستقلّ الإصابات بين الجنود. وكما قال مسؤول رفيع في إدارة بوش لصحيفة «نيويورك تايمز» في شهر حزيران، القواعد الطويلة الأمد «كلها أمكنة نستطيع السفر منها وإليها من دون وضع أميركيّين في كل زاوية من الشارع». ولكن مهمتها اليومية ستقضي بحماية البنية التحتية النفطية.

هذه هي «الفوضى» التي سيسلّمها الثنائي بوش - تشيني إلى الإدارة المقبلة. ماذا لو كانت تلك الإدارة ديموقراطية؟ هل ستفكّك القواعد وتسحب القوات بشكل كامل؟ لا يبدو ذلك مرجّحاً، نظراً إلى عدد المستفيدين من الاحتلال المستمر للعراق واستغلال موارده النفطية. المرشّحون الديموقراطيون الثلاثة الأبرز - هيلاري كلينتون، وباراك أوباما وجون إدواردز - قد حفظوا خطّ الرجعة، إذ إنّهم رفضوا قطع وعود بسحب القوات من العراق قبل عام 2013، نهاية الولاية الأولى، في حال فوزهم.

ومن بين الرابحين: شركات الخدمات النفطية مثل «هاليبورتون»، الشركات النفطية نفسها، الناخبون الأميركيون الذين سينالون ضمانات باستقرار الأسعار في محطات النفط (ويبدو أحياناً أنّ هذا جلّ ما يهمّهم)، أوروبا واليابان اللتان ستستفيدان من السيطرة على قسم كبير من الاحتياط النفطي العالمي، ولذلك سيتغاضى رؤساؤهما عن الاحتلال الدائم، والغريب جداً أنّ أسامة بن لادن أيضاً سيكون من الرابحين لأنّه لن يقلق من تدنيس الجنود الأميركيين المدينتَين المقدستَين، مكّة والمدينة، بما أنّ استقرار بيت سعود لن يبقى طاغياً على اهتمامات الأميركيّين. ومن بين الخاسرين روسيا التي لن تقدر على التحكم بأوروبا من خلال مصادر الطاقة التي تملكها. أما الخاسر الأكبر الآخر فهو منظمة «أوبك»، ولا سيّما المملكة العربية السعودية التي ستتهدّد جدياً قدرتها على المحافظة على ارتفاع أسعار النفط عبر فرض حصص الإنتاج.

ثم هناك قضية إيران، وهي أكثر تعقيداً. ففي المدى القصير، تدبّرت إيران أمورها جيداً بالنسبة إلى الحرب في العراق. فالائتلاف الشيعي العراقي الحاكم أصبح الآن تحت سيطرة مجموعة مقربة من طهران، وقد قامت الولايات المتحدة، طواعية أو عنوة، بتسليح وتدريب أشدّ العناصر ولاء لإيران في القوات المسلّحة العراقية. أما بالنسبة إلى البرنامج النووي الإيراني، فيبدو أن لا الضربات الجوية ولا المفاوضات ستحيده عن مساره. ولكن النظام الإيراني غير مستقر. فأئمة مساجد غير محبوبين يتشبّثون بالسلطة عبر تمويل الاستخبارات ورشوة النخب بأموال النفط، ما نسبته 70 في المئة من الدخل الحكومي. وإذا انخفض سعر النفط فجأة إلى 40 دولاراً للبرميل (من السعر الحالي الذي يقارب 80 دولاراً)، فسيفقد نظام طهران القمعي مدخوله الثابت. وهذه نتيجة تستطيع الولايات المتحدة تحقيقها بسهولة عبر فتح «حنفية» النفط العراقي للمدة المطلوبة (فتُسقط ربما الفنزويلي المزهوّ بالنفط هوغو تشافيز).

أمّا النقطة الأخرى، فهي طبعاً الصين. فنتيجة عجز الولايات المتحدة التجاري، إذ إنها مدينة للصين بما يوازي تريليون دولار (بما فيها 400 مليار دولار على شكل سندات خزينة أميركية)، تملك الصين نفوذاً هائلاً على واشنطن: فمن خلال بيع مقادير كبيرة من الدين الأميركي، تستطيع الصين أن تُخضع اقتصاد هذا البلد. إلى هذا، ينمو اقتصاد الصين بمعدّل 10 في المئة سنوياً وفق أرقام رسمية. وحتى لو كان الرقم الفعلي أقرب إلى 4 أو 5 في المئة، كما يعتقد البعض، فإن ثقل الصين المتزايد يمثّل تهديداً للمصالح الأميركية. (ثمة أمر واقع: تشتري الصين غواصات جديدة بسرعة تفوق سرعة الولايات المتحدة بخمسة أضعاف). أما القيد الرئيس على نمو الصين فهو قدرة الوصول إلى الطاقة. ومع سيطرة الولايات المتحدة على أكبر حصة من النفط العالمي، ستكون الصين تحت رحمة واشنطن إلى حد كبير، وهكذا يبطل مفعول التهديد الصيني.

لا يزال العديدون محتارين بالنسبة إلى الدافع المحدَّد الذي حثّ بوش - تشيني على اجتياح العراق واحتلاله. في عدد أيلول من مجلّة «ذو نيويورك ريفيو أوف بوكس»، اعترف طوماس باورز، أحد أمهر مراقبي عالم الاستخبارات، بشعوره بشيء من الحيرة. فقد كتب: «الغريب خصوصاً هو انتفاء وجود رواية مصقولة، محترفة، رواية شخص مطّلع، عن طريقة التفكير التي دفعت الأحداث في هذا الاتجاه». أما ألان غرنسبان، فقد كان أوضح في هذه المسألة في مذكراته المنشورة أخيراً، إذ كتب: «يحزنني أن يكون غير لائق سياسياً إعلام الناس بما يعرفه الجميع: الدافع الكبير إلى حرب العراق هو النفط».

أكثر من دافع
هل استراتيجيّة اجتياح العراق للسيطرة على موارده النفطية قرّرها فريق العمل من أجل الطاقة الذي أنشأه تشيني عام 2001؟ لا يستطيع المرء تأكيد ذلك، لأن مداولات ذلك الفريق المؤلّف، بقسم كبير منه، من مديري شركات نفطية وشركات طاقة، أبقتها الإدارة سرية على أساس أنّها «خاصة بالمديرين».

لا يستطيع المرء الجزم بأنّ النفط هو الذي أعطى الدافع الأول، ولكن الفرضية قوية عندما يتوجّب شرح ما جرى فعلياً في العراق. فقد يبدو الاحتلال أنه أساء التصرف بشكل رهيب ظاهرياً، ولكن موقف إدارة بوش المتعجرف حيال «بناء الأمّة» أكد تقريباً أن العراق سيصبح في النهاية محمية أميركية للعقود القليلة المقبلة - إذ إن هذا شرط ضروري لاستخراج ثروته النفطية. إذا نجحت الولايات المتحدة في إنشاء حكومة ديموقراطية قوية في عراق آمن فعلياً بفضل جيشه وشرطته ثم رحلت عنه، ما الذي سيمنع الحكومة من السيطرة على نفطها الخاص مثل سائر الأنظمة في الشرق الأوسط؟ على افتراض أنّ استراتيجية بوش - تشيني تتمحور حول النفط، فإنّ التكتيكات - حلّ الجيش، اجتثاث البعث، «اندفاعة» أخيرة عجّلت في الهجرة الداخلية - لا يمكن أن تكون أكثر فعالية. أما التكاليف - بضعة مليارات من الدولارات شهرياً بالإضافة إلى بضع عشرات من القتلى الأميركيين (رقم سينخفض على الأرجح، وهو، على أي حال، يضاهي رقم سائقي الدراجات الذين يُقتلون بسبب قوانين الخوذات المبطلة) - فتكاد لا تُذكر مقارنة مع 30 تريليون من الثروة النفطية والتفوّق الجيوسياسي الأميركي ووقود بخس الثمن للناخبين: إنّه نجاح مدوٍّ.