لم يتأخر الرد الأمريكي على حصيلة قمة قزوين المقلقة، ولم ينتظر البيت الأبيض كثيراً ليعبر عن انزعاجه من الجديد الإيراني الروسي، الذي دشنت لبناته غير المستحبة الزيارة الموصوفة إيرانياً بالتاريخية للرئيس الروسي فلاديمير بوتن للعاصمة الإيرانية... الزيارة الثانية لرئيس روسي بعد تلك الستالينية الشهيرة دشنت ما اعتبره الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد نقطة "تحول" في العلاقة بين البلدين، ووصفها آخرون، في طهران وسواها، بالاستراتيجية... فضلاً عن الانزعاج وعدم كتمان القلق، سارع الأمريكان، في خطوة اعتراضية، وربما في محاولة براغماتية توظيفيّة قد لا تفاجأ أحداً حيث يجيدون لعب مثيلاتها عادة في علاقاتهم الدولية، فربطوا بين مسألة تعديل مشروع درعهم الصاروخي على التخوم الأوروبية لحدود روسيا ومطلبهم بتعليق برنامج إيران النووي...

قبل قمة قزوين، أو الزيارة الروسية لطهران الموصوفة بالتحوّل، فشلت زيارة الثنائي الأمريكي رايس وغيتس لموسكو، وانتهت بلقاء مناكفة مدروس من قبل رايس عقدته مع منظمات المجتمع المدني الروسي ذات النزوع الليبرالي المبهور بالشعارات الأمريكية. كما فشلت في ثني بوتن عن التوجه لطهران تحذيرات التسريبات أو الشائعات التخويفيّة عن محاولة اغتيال مبيته في انتظار الرئيس الروسي هناك. وبعد انتهاء القمة، والأهم منها حدث الزيارة الروسية، بلغ انزعاج الرئيس الأمريكي حداً جعله يحذر كل من يهمه الأمر في عالمنا من حرب عالمية ثالثة!

قال بوش: "لدينا رئيس إيراني أعلن أنه يريد تدمير إسرائيل". وما دام الأمر يتعلق بإسرائيل يكمل الرئيس الأمريكي:

"لذلك أقول (لدول العالم) إذا رغبتم في تفادي حرب عالمية ثالثة فعليكم محاولة منعهم (الإيرانيين) من الحصول على المعرفة الضرورية لصنع سلاح نووي"!

بيد أن قلقه أعمق بكثير من ما بدر من انزعاجه، لذلك أردف:

"أتطلع بفارغ الصبر لتلقي موجز عن اللقاء (القزويني) من جانب الرئيس بوتن"!

وزير الحرب الأمريكي نسج بدوره على ذات المنوال حيث دعى لجبهة دولية لكبح جماح الطموحات الإيرانية... ترى ما لداعي لكل مثل هذا الانزعاج، وما هو مبعث كل هذا القلق؟

إنه، وبلا شك، لا يرجع كله لخطورة البرنامج النووي الإيراني، المشكوك أصلاً في توجهه العسكري، أو في مدى خطورته المبالغ فيها غربياً إن وجد، لكنه دونما شك يعود في أحد وجوهه إلى نتائج القمة القزوينية، أو تحديداً تداعيات "التحوّل" الذي له ما بعده إستراتيجياً في العلاقة الروسية الإيرانية، هذه التي يبالغ البعض في وصفها بالاستراتيجية، أو بالأحرى يعود إلى حدّة النبرة الروسية المتصاعدة في مخاطبة الغرب ومن طهران تحديدا،ً أو إلى ارتفاع منسوب مستوى الاعتراض الروسي على السياسات الأمريكية الكونية ذات النزوع الإمبراطوري الفج... وأخيراً ما يفصح عن ضيق من لا يحتمل نجاحاً يتحقق للديبلوماسية الإيرانية فيما يتعلّق بأزمة الملف النووي الإيراني... إذن، ماذا عن تلك القمة؟!

قمة قزوين، أو هذا المسطح المائي المغلق الذي تقدر مساحته ب370 ألف كيلومتر مربع، والذي تتشاطئه الدول الخمس المشاركة في هذه القمة، أي روسيا وإيران وكازاخستان وأذربيجان وتركمانستان، والذي تقدر احتياطاته النفطية ما بين 17 إلى 49 مليار برميل، ومن الغاز الطبيعي ما يقدر ب232 ترليون قدم مكعب، ناهيك عن اليورانيوم، والثروات الأخرى التي ليس الكافيار أهمها، خرجت بإعلان طهران ذي الخمسة والعشرين بندا،ً وببيان مشترك، كلاهما أوحيا بنوع من بداية لتكتل أو حتى حلف... لدرجة أن تحدث الرئيس نجاد عن شيء اسمه "منظمة دول بحر قزوين". والأهم، وبعيداًً عن النوايا الجديّة في التوافق على تقسيم الثروات القزوينيّة واستثماراتها المشتركة، وما تبع من الاتفاقات ذات الطابع الأمني، وما بدا من التعاضد السياسي، كانت أجواء القمّة أهم من نتائجها. لقد توفر لها أمران هامّان هما الإرادة والمصالح المشتركة، هذان العاملان اللذان أسهما في إبراز موقف موحد للمؤتمرين، بدا كتحدٍ واضح للسياسة الأمريكية في المنطقة... والخلاصة ما تمخّض عن دعم سياسي لإيران تجلى بقوة فيها، وكانت تعكسه مثل هذه العبارات:

إن الدول المشاركة في القمة "لن تسمح تحت أية ظروف لأن تستخدم دولة ثالثه (أراضيها) لشن عدوان أو القيام بأي تحرك عسكري آخر ضد دولة عضو".

وأن هذه الدول تؤيد "حق أي دولة موقعة على حظر الانتشار النووي في تطوير الأبحاث حول الطاقة النووية وإنتاجها واستخدامها لأغراض سلمية".

لكن لعل التقارب الروسي الإيراني متعدد الأوجه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، هو على رأس موجبات القلق والانزعاج الأمريكي واستطراداً الإسرائيلي والغربي عموماً. حيث ركز الرئيس الروسي على ما دعاه الدور الإيراني "إقليمياً، وعالمياً". وإن "من مصلحة روسيا وجود إيران قوية"... وصولاً إلى قوله لوسائل الإعلام المتابعة للزيارة: "أن إيران قوة كبرى على الصعيدين الإقليمي والعالمي وتؤدي دوراً مهماً للغاية في الشرق الأوسط". ثم ما عكسه اجتماعه الاستثنائي مع مرشد الثورة، وما عبّر عنه البيان الروسي الإيراني المشترك، وكذا الاتفاق على استكمال بناء محطة بوشهر النووية في الموعد المحدد، ثم الحديث، وفق مصادر صحفية روسية، عن "صفقة محركات لطائرات ميغ 29" بقيمة 150 مليون دولار...

ما تقدم حدا برئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت لشد الرحال عاجلاً وليس آجلاً إلى موسكو في زيارة مفاجئة حتّى للإسرائيليّين، وصفها الإعلام الإسرائيلي ب"المذعورة"، بل بالغ في السخرية منها لدرجة نعتها بأنها "زيارة لتلقي البصقة في الوجه"، وبذا استحقّت لأن تصفها صحيفة "هآرتس" بأنها توحي بالتوتر والقلق والخنوع أمام الجبروت الروسي"!

هل في هذه الزيارة الأولمرتية والتعقيبات الإعلامية الإسرائيلية عليها ما يشي بأن الإسرائيليين قد يأسوا من الضربة الأمريكية العسكرية المنشودة إسرائيليّاً لإيران، هذه التي لا يريدها الأوروبيون، والتي لطالما حرّضت تل أبيب عليها؟!

ستجيب الأيام عن ذلك... لكن، ماذا عن الرد الروسي على كل هذه الجلبة الغاضبة في واشنطن وتل أبيب والغرب عموماً؟

قال بوتن، بعد عودته إلى موسكو، في برنامج تلفزيوني حواري، أن روسيا ليست "العراق، موحياً بإنه سوف يعيد نشر الأسلحة الروسية الاستراتيجية كرد على الدرع الصاروخي الأمريكي، مذكّراً العالم بأن أحد أهداف غزو الولايات المتحدة للعراق "كان يتمثل في بسط السيطرة على الاحتياطات النفطية لهذا البلد"، ساخرًا من البلطجة الأمريكية:

"لقد تعلموا أن يطلقوا النار لكنهم غير بارعين في الحفاظ على النظام"... ناصحاً المحتلين للعراق تحديد موعد لانسحابهم منه، حيث "لامستقبل لحرب يتم خوضها ضد بلد بأكمله"!

هل ما تقدم يعني أن الروس يريدون مواجهةً مع الأمريكان؟ قطعاً هذا ما لا يريدونه، وإنما هم في مثل هذه الحقبة الروسيّة بالذات يشعرون بأنهم في وضع القادر على تحد إرادة الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية على العالم، ولديهم اليوم إحساس أقوى من أي وقت مضى بتعافيهم نسبياً من كبوة الانهيار السوفييتي... هم اليوم الأكثر وضوحاً في نيّة الدفاع عن مصالحهم... وحيث لا يريدون المواجهة، ويدافعون بثقة في النفس أعلى ممّا كانت عن مصالحهم، تسارع البراغماتية الأمريكية لعرض صفقتها عليهم... تسارع لربط مسألة تعديل مشروع درعهم الصاروخي بتعليق المشروع النووي الإيراني... لعل هذا بعض ما سوف تتحدث عنه مرحلة ما بعد القمة القزوينية.