عزمي بشارة مفكر عربي لا يشق له غبار، ومناضل فلسطيني لا تمتلك معه سوى الإسراع في رفع القبعة إجلالاً وتقديراً.

لكن، وكما لكل جواد كبوة ولكل مجتهد زلَّة، كذا الأمر بالنسبة لبشارة. فهو وجد نفسه مؤخراً، أو على الأقل وجدناه، يداعب فكرة قديمة في المكان الخطأ، ويطرحها حديثاً في الزمان الخطأ. الفكرة: الديمقراطية العربية مستحيلة، قبل استكمال بنيان الأمة العربية في دولة قومية واحدة. ولأن الأمة لما تبنى بعد، لا مناص من العودة بالزمان الى الوراء: الى مرحلة لا صوت يعلو على صوت المعركة، ولا خيار سوى تقديم مصلحة الأمة (مجدداً) على حقوق الفرد. مقاربة بشارة المفاجئة هذه جاءت في كتابه الجديد: “في المسألة العربية. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي”.

في هذا المؤلف، يحمل الكاتب بعنف على الديمقراطيين العرب، ويتهمهم بأنهم لا يعرفون معنى الديمقراطية، ولا يفهمون شروط تحقيقها في الظروف العربية. وهو في سعيه لإظهار جهل خصومه وقلة معرفتهم النظرية أو حسهم التاريخيين، يوَحد بينهم وبين النيوليبراليين الأمريكيين. لا بل هو يتهمهم بالجهل بواقع مجتمعاتهم وشروط انتاجها وبقوانين الانتقال نحو الديمقراطية.

برأي بشارة، لا تستقيم الدعوة الديمقراطية إلا في إطار أمة ناجزة. وهذا ما يبدو الآن بعيداً كل البعد عن التحقق. فالعرب اليوم عرضة للتفكيك لا للتوحيد، للتخريب لا للبناء، على يد القوى الغربية. وهذا ما يستدعي الحديث عن وجود “مسألة عربية”، شبيهة بما أطلق عليه في القرن التاسع عشر اسم المسألة الشرقية.

يقول: “الأمة العربية لا تزال أكبر قومية معاصرة لم تحظ بحق تقرير المصير، عبر التحوّل الى أمة ذات سيادة، ولم تحظ بفرصة الصراع بعد ذلك للتحَول الى أمة من المواطنين”. ومن هنا فإن “المسألة العربية تعني في ما تعنيه أن العناصر نفسها التي تمنع تحقق الأمة داخل الدولة القطرية وخارجها، هي التي تعيق التحول الديمقراطي، ولذا، الأجندة الديمقراطية العربية غير ممكنة”.

لماذا قرر بشارة “بعث” الفكر “الرومانسي” العربي، الذي كان وراء كل النزعات الاستبدادية العربية، من ساطع الحصري الى صدام حسين، على هذا النحو؟

المبررات التي قد نجدها له تبدو عديدة:

فهو كفلسطيني، ربما شعر بأن تقدم الديمقراطية على ما عداها كأولوية، قد يعني تأخير الحل العربي لقضية فلسطين عقوداً عدة، بسبب التمخضات الطويلة التي سيمر بها كل مجتمع عربي قبل أن تختمر الديمقراطية فيه.

أو لعله أرتأى تطبيق نظرية لينين الشهيرة: حين تضيِّع الهدف، افعل عكس ما يفعل عدوك. وبما أن الاعداء هنا، وهم المحافظون الجدد الأمريكيون والليكودييون “الإسرائيليون” القدماء، يطرحون فكرة تطبيق الديمقراطية في المنطقة العربية، قد يكون الأفيد القيام بالعكس: تأجيل الديمقراطية، وتقديم مسألة بناء الأمة.

أو هو ربما أحس بأن وراء تفكك العراق وفلسطين ولبنان (والحبل ما زال على الجرار) مؤامرة حقيقية تستهدف وجود العرب كأمة. وأمام مثل هذا الخطر، لا مناص من وضع حقوق الفرد العربي على الرف من جديد، لمصلحة بلورة حركة تحرر عربية جديدة تستند من ألفها الى الياء الى فكرة المقاومة.

كل هذه المبررات، مضافاً اليها البعد النظري المتعلق بالشروط التاريخية لقيام الديمقراطية، مثل توَحد الامة وسيادتها، وتوفر رأي عام حر ومستقل، وبناء المواطنية، ووجود طبقة وسطى قوية، وغياب العشائرية والقبلية، ربما دفعت بشارة الى القيام بخطوته “الانقلابية”، أو بالأحرى، انقلابيته على الانقلابية الديمقراطية العربية التي نشأت في الثمانينات.

لكن الغاية لا تبرر الوسيلة، حتى لو كانت الأولى نبيلة. فما بالك إذا ما كانت هذه الوسيلة وراء العديد من الكوارث القومية العربية طيلة نصف القرن المنصرم؟

لكن هذا لم يكن خطأ عزمي بشارة الوحيد. ثمة ما هو أخطر بكثير على كل من المستويين النظري والعملي. كيف؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)