كثرت الروايات عن الهدف الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية في غارتها داخل العمق السوري الشهر الماضي، كما كثرت التحليلات عن أسباب الغارة وتوقيتها، وفيما ركزت إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة على رواية واحدة تفيد بأن الهدف كان منشأة يجرى إعدادها لتكون مفاعلاً نووياً يتم استحضاره من كوريا الشمالية، فإن سورية أكدت حصول الغارة لكنها نفت ان تكون استهدفت منشأة نووية او يجرى الإعداد لها لتكون نووية، كما نفت ان تكون في صدد الدخول في اي عمل نووي، لكنها في الوقت نفسه لم تشرح تفصيلاً طبيعة الهدف الذي دمرته الغارة، ما طرح السؤال عن ماهية هذا الهدف وعن الأسباب القريبة والبعيدة للغارة اذا لم يكن الهدف نووياً.

مصادر ديبلوماسية لبلادها علاقة جيدة بسورية، كشفت ان الغارة الإسرائيلية استهدفت مستودعاً للصواريخ البعيدة المدى وتمكنت من تدمير قرابة مئتي صاروخ في هذا المستودع. ورأت المصادر، التي طلبت عدم الكشف عن هويتها، ان أسباب شن الغارة ومدلولاتها متعددة، وهي على عكس كل ما كانت توحي الأجواء السياسية عشية شن الغارة بأن الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل ومن خلفها بعض الدول الغربية تعد العدة لضرب إيران على خلفية ملفها النووي، فإن ما يجرى الإعداد له هو ضرب سورية أو شن عدوان كبير عليها، وقد استخدم الموضوع النووي «الكاذب على غرار الزعم بامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل لتبرير العدوان عليه واحتلاله» للبدء بالتحضير لهذا العدوان على سورية. وتقول المصادر نفسها إن أهداف الغارة تمثلت بداية بتدمير كمية من الصواريخ السورية البعيدة المدى واستخدام الغارة لتكون عملية استطلاع بالنيران لقدرات الدفاع الجوي السوري، خصوصاً ان تجربة إسرائيل في عدوانها على لبنان في السنة الماضية أثبتت فشل الاستخبارات الإسرائيلية وعجزها في الكشف المسبق عما يمتلك حزب الله من أسلحة وعن المواقع القتالية للحزب ومراكز القيادة والتحكم لديه ونظام الاتصالات الذي يعتمده. كما يدخل في الأسباب ايضاً، استطلاع ميداني لموقف تركيا حيال استخدام أجوائها في عملية عسكرية مستقبلية ضد سورية.

وقالت المصادر ان التقديرات لدى القيادتين السورية والإيرانية تشير الى ان الولايات المتحدة وعلى رغم التهديدات التي تطلقها ضد ايران باتت على قناعة بأن أي عمل عسكري ضدها سيكون مغامرة غير محمودة العواقب، فالنظام الإيراني لا يزال يتمتع بشعبية واسعة في بلاده وبالتفاف جماهيري يجعله قادراً على تعبئة الملايين من المقاتلين ناهيك عن قدراته المالية الهائلة وإمكان تحريكه خلايا نائمة في العالم الغربي الذي قد يعطي غطاء سياسياً او عسكرياً للعدوان على إيران، وإضافة الى كل ذلك فإن المعلومات الاستخبارية المتوافرة عن القدرات الدفاعية الإيرانية غير كافية لشن عدوان على بلد تبلغ مساحته 1.66 مليون كيلومتر مربع (أي أربعة أضعاف مساحة العراق) وعدد سكانه نحو سبعين مليون نسمة ويتمتع بقدرات مادية وثروات طبيعية ضخمة ليس اقلها النفط الذي بلغت صادرات إيران منه السنة الفائتة وفي إطار الطفرة في الأسعار العالمية للنفط قرابة الخمسين بليون دولار. إضافة الى ذلك فمن نافل القول ان عدواناً على إيران من شأنه ان يشعل منطقة الخليج حيث اكبر احتياط للنفط في العالم وهو في حد ذاته سيوجد نتائج لا تحمد عقباها على الاقتصاد العالمي برمته. وتقول المصادر الديبلوماسية انه في إطار هذه القراءة لدى القيادة الأميركية باتت الكفة تميل الى الأخذ في الاعتبار توجيه ضربة الى مخالب إيران بدل ضرب القلب منها، وهكذا فإن عملية عسكرية ضد سورية تشكل اولاً ضربة لنظام حليف لطهران وممانع لمشاريع الإدارة الأميركية في المنطقة، وثانياً ضربة لحلقة الوصل الجيوسياسي بين إيران وحلفائها في لبنان وفلسطين، ومن شأن ذلك بالتالي عزل طهران عن دائرة التأثير في اكثر المناطق سخونة وحـــساسية في العالم بالنسبة الى واشـــنطن.

خطأ أميركي جديد

في إطار هذه القراءة لأسباب الغارة الإسرائيلية على سورية وتوقيتها تقول المصادر ان الإدارة الأميركية ارتكبت واحدة من أخطائها الاستراتيجية في ظل حكم الرئيس جورج بوش الابن، اذ استفزت تركيا في موضوعين يشكلان مساً مباشراً بالايديولوجيا والأمن التركيين، بصرف النظر عن طبيعة الإدارة السياسية الحاكمة في أنقرة. الاستفزاز الأول وهو الإيديولوجي تمثل بإدانة «المجازر العثمانية بحق الأرمن» في مطلع القرن الماضي، وترى المصادر ان الهدف الأميركي من هذه الإدانة هو استمالة ارمينيا ضد روسيا في ظل التوتر السياسي المتصاعد مع روسيا على خلفية نشر الدرع الصاروخية في أوروبا، والاستفزاز الثاني وهو أمني تمثل بقرار الكونغرس تقسيم العراق مبدئياً الى ثلاثة اقاليم، شيعي وسني - عربي وكردي، والهدف من القرار كما ترى المصادر محاولة الخروج من المأزق العراقي بعد ان تولدت قناعة راسخة لدى واشنطن باستحالة احكام قبضتها على العراق موحداً.

غير ان نتائج هذين الموقفين الأميركيين جاءت لتشكل ضربة قوية للإدارة الأميركية، فأنقرة لا يمكن ان تتساهل في موضوع إيديولوجي له علاقة بالمجازر ضد الأرمن التي تنفيها جملة وتفصيلاً وترى فيها مواجهة مع حال تمرد داخلية لا شأن للعالم بها، وترى في تقسيم العراق بداية لإنشاء دولة كردية مستقلة تشجع أكراد تركيا على التمرد للانضمام الى هذه الدولة. ومعروف ان كردستان الطبيعية تضم أراضي من العراق وإيران وتركيا وسورية، وبهذا المعنى فإن الضرر من إنشاء دولة كردية يقع على هذه الدول مجتمعة، وبطبيعة الحال فإن إيران وسورية المتهمتين بـ «الحرتقة» على الوجود الأميركي في العراق غير قادرتين على مواجهة عسكرية مع القوات الأميركية لمنع تنفيذ قرار التقسيم، على عكس تركيا التي تعتبر منع قيام الدولة الكردية مسألة حياة او موت، وبذلك تكون واشنطن قد وحدت القوى السياسية والعسكرية التركية المتناقضة كما وحدت حلفاءها وأعداءها في المنطقة.

لذلك سارع الرئيس السوري بشار الأسد الى زيارة تركيا ومباركة تدخلها في إقليم كردستان العراقي لأن تركيا في مثل هذا التدخل لا تنهي ملفاً يتعلق بأمنها القومي فقط بل يتعلق أيضاً بالأمن القومي لكل من سورية وإيران.

كيف ستواجه إيران وسورية العدوان على سورية إذا ما حصل؟

رداً على هذا السؤال يقول المصدر الدبلوماسي ان التحالف الإيراني - السوري عميق ووطيد جداً وهو ينبع من معرفة الطرفين بأن ضرب أي منهما يؤدي حتماً الى إنهاء الآخر، وبالتالي فإن أي خلاف بينهما في وجهات النظر حيال أي من الملفات المشتركة اقليمياً غير وارد في هذه المرحلة. كما ان خطة المواجهة لديهما تقوم بصورة أساسية على استخدام عامل الوقت، فولاية الرئيس جورج بوش وإدارته تنتهي بعد سنة تقريباً، لذلك فإن السياسة التي ستعتمدانها هي نزع الذرائع والمماطلة في دفع البت بالملفات العالقة مع واشنطن وتجنب المواجهة معها قدر الإمكان، من دون تقديم تنازلات لها في أي من هذه الملفات، وفي الوقت نفسه إعداد العدة كأن الحرب واقعة غداً. وبطبيعة الحال فإن لبنان يشكل البؤرة الأكثر احتمالاً للتفجر بسبب وقوع الاستحقاق الرئاسي في مدى زمني يصعب تجاوزه، وهنا تقول المصادر ان إيران وسورية تشجعان على أي شكل من أشكال التوصل الى رئيس توافقي يبعد عن لبنان شبح الحرب الأهلية، وفي ذلك أيضاً مصلحة لإدارة بوش التي ان كان لديها من شيء تفاخر به خلال حكمها على مدى ولايتين متتاليتين فهو «ثورة الأرز» في لبنان، لذلك فإن حرباً أهلية لبنانية من شأنها ليس فقط الإطاحة بهذا «الإنجاز»، بل من شأن الخلل في موازين القوى الداخلية لمصلحة حلفاء طهران ودمشق «ان يجعل السفير الأميركي حبيس سفارته في عوكر». وللتأكيد على ذلك يقول المصدر «انظر الى وضع الأميركيين في أفغانستان فقد تحول وجودهم هناك الى كابوس لهم ولحلفائهم، ويكفي للدلالة على ذلك ان نرى الرئيس الأفغاني حميد كارزاي يدعو حركة طالبان الى التفاوض وهي ترفض مشترطة انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وفي العراق لا داعي للشرح والتحليل فالأخبار اليومية تكفي للدلالة على الفشل الأميركي، وفي فلسطين، ايضاً باتت عملية «السلام» في حكم المتوفاة بل بات حلفاء طهران ودمشق أيضاً «في قلب إسرائيل».