أثارت مذبحة «بلاك ووتر» بالمواطنين العراقيين يوم 17 ايلول (سبتمبر) الماضي، والتي راح ضحيتها حسب التقارير الاميركية 16 من المدنيين العراقيين نقاشا لم ينته بعد حول خصخصة «الخدمات الأمنية» وبيعها وشرائها كأنها بضاعة. وقد تبين في واقع الحال ان إطلاق النار لم يكن مبررا، وأنه جرى عشوائيا خلال شق طريق قافلة سيارات حماية مسرعة. وانفضح في خضم النقاش عدد من جرائم القتل المشابهة بإطلاق النار من داخل سيارات وعمليات التنكيل التي قام بها أفراد شركة «بلاك ووتر»، أكبر الشركات الأميركية الأمنية الخاصة العاملة في العراق. ومن «أطرفها» أن أحد أفرادها كان يتجول في المنطقة الخضراء مخمورا جذلا بعد حفلة عيد الميلاد الماضي في داخل المنطقة الخضراء فقتل على سبيل اللهو أو التنفيس بعد أن أزال الشرب الكوابح حارسا شخصيا لنائب الرئيس العراقي عادل عبد المهدي. كما تبين أنه بعد شكوى نائب الرئيس للسفير الأميركي في حينه، زلماي خليل زاد، ومطالبته بتسليم القاتل للسلطات العراقية تم ترحيل القاتل خفية الى الولايات المتحدة. وبما أنه فوق القانون جاءت «عقوبته» من الشركة بحسم ثمن التذكرة من تعويضاته وحرمانه من آخر معاش. وقد بلغت هذه العقوبة 14679 دولاراً. وعوضت الشركة عائلة القتيل بـ15 ألف دولار، أي أنها لم تخسر قرشا واحداً على عائلة القتيل، بل دفعت ما وفرته من راتب القاتل الذي لم يعاقب. («واشنطن بوست» 21 تشرين الأول/ أكتوبر).

لا يمكننا الادعاء أن هذأ النوع من خصخصة الخدمات الأمنية يقتصر على نشاط الاحتلال الأميركي وخدماتها له في دول أجنبية مثل العراق. فقد جرت خصخصة خدمات الحراسة الشخصية وحراسة المؤسسات والبيوت، وحتى السجون، في العديد من الدول. وهي خطوة لبرلة اقتصادية، ومثل أي خطوة لبرلة اقتصادية في عصرنا لم تعد بالضرورة تعبيرا عن أي لبرلة سياسية او حقوقية مدنية، بل بالعكس قد ترافقها ظواهر مثل تآكل حقوق مكتسبة وانعدام الحساسية تجاهها، بخاصة عند من يخضعها لقوانين السوق. وتصح هذه المعادلة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بخصخصة الخدمات المتعلقة بالتعليم والصحة وأمن المواطنين. في هذه الحالة تكون الخصخصة عموما تعبيرا عن نزعة توحش وتغول رأس المال. ومع أنه يرافق الخصخصة تحسن في مستوى الخدمات المقدمة لقطاعات معينة، إلا ان مفهوم الحقوق الاجتماعية المكتسبة يتحول إلى عبء على كاهلها تسعى للتخلص منه بكل السبل والأحابيل، أما الصالح العام وعملية بناء الأمة من خلال المواطنة المتساوية في تلقي خدمات الدولة مقابل الضرائب التصاعدية فيغيب تماما. إذ تنشأ أنظمة تعليمية وصحية وأمنية متفاوتة. وتفاوتها خطير يتجاوز الاختلاف الى الصراع.

يصح هذا الكلام على خصخصة هذه القطاعات داخل الدول المعنية، إذ أن الربح وقوانين العرض والطلب ترتفع فوق مفهوم الخير العام والصالح العام والمواطنة. ولكن هذه العملية عندما تجري في هذه الدول تضبط قانونيا على الأقل، أي تخضع لقوانين تنظم عملها ومسؤولياتها المدنية التي قد تتحول إلى جنائية حتى في حالات الإهمال غير المتعمد. أما عندما يتعلق الأمر بخصخصة وبيع خدمات للدولة لقمع شعوب أخرى فيقع المحظور وترتكب الكبائر. والأمر الخطير الذي يدور حوله النقاش في الولايات المتحدة حاليا هو ترفيع هذه الشركات والمؤسسات التي تبيع هذه الخدمات للدولة في الخارج فوق طائلة القانون، أي قانون، المحلي أو الأميركي. إذ لا يمكن ان يطلب الاحتلال من شركة خاصة أن تقوم بأعمال لا يستطيع الجيش، أو لا يريد، القيام بها ثم تعريض افرادها للمحاكمة او المساءلة القانونية نتيجة لهذه الأفعال غير القانونية. فعدم قانونية الأفعال وعدم التزامها الحرفي بالقوانين هو أفضلية هذه الشركات التي تبيعها وتتفوق بها على الجيش بعد انتهاء «العمليات العسكرية»، وهذه الافضلية تحقق لها فائض القيمة والربح. فبعد توقف القتال يصبح الجيش، نظريا على الأقل، خاضعا لقوانين أخرى غير قوانين الحرب. وهي قوانين الاحتلال او على الأقل قوانين دولته التي يرتدي زيها بما فيها من امتيازات للجندي في مناطق معادية، ولكنها قوانين على كل حال. وأفضلية هذه الشركات على الجيش هو منحها ما لا تستطيع دولة أن تمنحه لجيشها وهو التحلل من القوانين عندما يتعلق الامر بحماية أفراد أو مصالح، وبث الرعب في أوساط السكان المحليين بالضبط لأنهم يعلمون أنه لا قانون يلزم هؤلاء بشيء.

تقوم الشركات بكل ما يلزم لتنفيذ المهمة التي تعاقدت على تنفيذها مع وزارة الخارجية الاميركية بشكل خاص. ويحق لنا أن نقول أن «بلاك ووتر» هي في الواقع ميليشيا خاصة بوزارة الخارجية الأميركية. ومهمات مثل هذه الشركات في حالة العراق هي حماية حياة الديبلوماسيين والمسؤولين الأميركيين وبعض المشاريع الاقتصادية الحيوية التي تقوم بها شركات أميركية حازت على عطاءات خيالية ونهبت أموال النفط. وإذا لم تنجح الشركة في القيام بالمهمة فلن يستأجرها آخرون في المستقبل، وسوف تفلس الشركة ببساطة. وهي لا تبني سمعتها وتسويق ذاتها على احترام حقوق المواطن العراقي أو حتى أخذها بعين الاعتبار، بل على نجاحها في تنفيذ المهمة. لا أحد يحل جيشا بسبب فشله في حماية ديبلوماسي، ولكن اذا تكرر إخفاق كهذا في عمل شركة فلن يشتري خدماتها أحد، وسوف تفلس وتحل. وهي لا تستطيع ان تؤمِّن تنفيذ المهمة ولو أدى ذلك الى وقوع ضحايا من أفرادها أثناء تنفيذ الواجب كما في حالة الجيش. لأنه إذا كان عدد الضحايا كبيرا وخطر الموت ماثلا فسوف ترتفع الأجور المرتفعة أصلا كي يقبل احد العمل فيها، وبذلك لا يتحقق أقصى ربح ممكن للشركة. هنا يصبح قتل المحليين وعدم المجازفة بحياة الأفراد العاملين في الشركة قضية توفير.

إذا قام الجيش أو الشرطة بتأمين الحراسة لديبلوماسي، فسيكون عليهما تجنب الخطر، أو إطلاق النار في حال وقوعه وذلك كدفاع عن الديبلوماسي وعن النفس، وليس قبل وقوع الخطر. أما الشركات الخاصة فلا تجازف، وقد تلجأ إلى منع نشوء مثل هذا الوضع على شكل ردع بالقوة او إطلاق النار بالشبهة والاشتباه وعدم انتظار وقوع الخطر. ويتحول التسامح مع إطلاق النار بالشبهة، إلى توسيع تفسير الشبهة، والكذب حول وجودها أصلا في التقارير المقدمة، كما يجري الآن حول مجزرة 16 أيلول التي أثارت النقاش. ويصعب إثبات كذب الاشتباه، فالاشتباه عموما هو حالة نفسية معنوية. كما ان الحقيقة مخصخصة في حال هذه الشركات، ولا حرج من الكذب والنظر أثناء ذلك في عيني المذيع المتأثر بما يروى له ببراعة بلغته التي لا يتقنها أهل الضحايا. والكذب رواية تبدو متسقة ومنسجمة وبالتالي حقيقية في مقابل روايات أهالي الضحايا المتقطعة غير المعدة. ويتحول السماح بالقتل بالشبهة بأسرع مما يتصوره المسؤولون الى إطلاق النار لغرض المتعة، خاصة أن هذه الشركات الأمنية لا تجذب أناسا عاديين بل تجذب ايضا مغامرين او مهنيين أمنيين يبيعون خدماتهم ولا تلعب الأخلاقيات او الشعور بالواجب دورا خاصا في سلوكهم.

وقد انفردت «فيلادلفيا انكوايرر» أخيراً بنشر معلومة يفترض انها مهمة، واستحقت ان تنشر في وقت مبكر. تحتل جنوب أفريقيا موقع الدولة الثالثة في عدد الأفراد الذين يتعاقدون مع هذه الشركات في العراق بعد اميركا وبريطانيا. فهي تعج بالخبرات البوليسية القمعية المتقاعدة من دون عمل بعد نهاية نظام «الابارتايد». وتتستر عائلات العاملين من جنوب أفريقيا على مهمة أبنائهم، لان قانونها يحظر مثل هذا التعاقد في بيع خدمات أمنية لانها كانت في الماضي مصدرا لتزويد انظمة قمعية أفريقية بها. ومع أن جنوب أفريقيا تعارض الحرب على العراق. لكن الدولة لا تقوم بمنع هذا النشاط والتجريم عليه بتطبيق القانون. وحتى عندما يختفي افراد عاملون في هذه الشركات من جنوب أفريقيا، أو حتى عندما يخطفون في العراق، يخيم الصمت على بيوتهم وعائلاتهم، ولا تثار حولهم الضجة. ومع ذلك فإن العدد يقارب العشرة آلاف برأي مصادر في وزارة خارجية جنوب أفريقيا، وثلاثة آلاف برأي الشركات ذاتها. («فيلادلفيا انكوايرر» 21 تشرين الأول/ اكتوبر). وعلى كل حال نستطيع ان نتصور اي نوع من البشر تمت تربيتهم في نظام «الابارتايد» ولديهم خبرات مطلوبة، أو يتركون الآن صفوف الشرطة للمغامرة وبحثا عن أجور تبلغ 10 الاف دولار في مقابل اجر شهري يتجاوز الالف دولار بقليل في جنوب أفريقيا.

تتعرض دولة عربية وشعب عربي حاليا لقمع يتجاوز القمع الاستعماري الى الميليشيات الأجنبية المتعددة القوميات التابعة لشركات خاصة. قد يشارك افراد هذه الشركات أفرادا من جيش الاحتلال القسوة والعنصرية نفسهما، ولكنها لا تقوم بدور حماية المجتمع ولا حتى كقوة احتلال مسؤولة امام القانون الدولي أو قانونها هي على الأقل، ولو نظريا. وهي تفضح مسألة السيادة العراقية تماما لان افرادها المدنيين غير مسؤولين أمام القانون العراقي عند قتلهم مدنيين عراقيين على أرض عراقية. هذه الشركات غير مسؤولة حتى نظريا الا عن مهمة محددة تبيعها منفصلة دون علاقة بأمن المجتمع والسكان، أو بالقانون، او بمصلحة البلد، ولا حتى البلد المستعمَر، بل هي تبيع خدمة أمنية محددة، بضاعة. ويقاس نجاحها من فشلها بتوفير هذه البضاعة او الخدمة، اي بتنفيذ هذه المهمة المحددة للاحتلال. وطبعا يكمن الفرق الأخير بين موظف الشركة الخاصة وبين الفرد في الجيش والشرطة ليس فقط في غياب الشعور بالواجب وترجيح كفة النجاح في تنفيذ المهمة، وليس فقط في عدم الخضوع لأي قانون، بل ايضا في غياب أي دافع للتضحية أو المجازفة. فالمرتزق لا يخدم، بل يعمل، ولا يضحي بل يربح. وقد تكون لدى بعضهم نزعة للمغامرة كنوع من التمتع بالخطر والمجازفة واكتشاف الجديد في الذات والمحيط، ولكن شتان ما بين التضحية والمغامرة. فالتضحية، بما في ذلك التضحية لغرض تنفيذ المهمة نفسها، ناهيك عن التضحية لغرض حماية أرواح الأبرياء، غير واردة في قاموس المرتزِق. وهو يعتبر السكان المحليين وهم يتحركون ويتنفسون من حوله مجرد زيادة في عناصر الخطر والمجازفة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)