ها هي إدارة بوش تلج مجدداً معترك الصراع السياسي الفلسطيني “الإسرائيلي” من بوابة الدعوة الى مؤتمر سلام في أنا بوليس عاصمة ولاية ميريلاند الشهر القادم.

وسوف يتعاظم خلال الاسابيع القليلة المقبلة تركيز صحافة العالم وتسليطها الأضواء على السبل التي سوف يتبعها بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس في مساعيهما للقيام بدور وساطة قد تفضي الى حل لهذا الصراع العصي على الحلول، غير ان كل المؤشرات تقود الى الاستنتاج بأن هذا التحرك ما هو إلا خطوة تافهة هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع، وأنها أتت متأخرة جداً، بل بعد ان فات الأوان بالنسبة لهذه الإدارة لتحقيق أي شيء ولو كان مجرد انجاز صغير له قيمة أو مغزى بالنسبة للفلسطينيين الذين أدمنوا الانتظار طيلة كل هذه السنين العجاف. ومن الآن يدور حديث حول احتمال تأجيل اللقاء لأن فرص احرازه لأي نجاح حقيقي تبدو ومنذ الآن شبه معدومة، وتقول دول عربية انها لا تريد حضور اللقاء إذا كان مجرد مناسبة استعراضية و”فرصة لالتقاء الصور التذكارية”.

ولم يمنع هذا إدارة بوش من أن تحاول، ظاهرياً على الأقل، وربما لذر الرماد في العيون، بذل مساعٍ يخيل للمراقب أنها جادة وتبتغي الوصول الى نتائج يعتد بها، فقد قامت كوندوليزا خلال اجازة نهاية الأسبوع الماضي بزيارة الى المنطقة في مسعى منها للعثور على “أرضية مشتركة” بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”.

هذا وقد تم ترتيب لقاءات بين فرق التفاوض من الجانبين ليجتمعوا هذا الأسبوع كي يضعوا تصوراتهم عن القضايا المقترحة للنقاش.

إلا انه ربما كان من الأفضل بالنسبة لجميع الأطراف ان يقاطعوا هذا الحدث، وما تزال إدارة بوش تظهر بوجهين اثنين وتمارس ازدواجية المواقف سواء ما يتعلق بهذا الصراع أو بالنسبة للشرق الأوسط الأوسع نطاقاً. فالولايات المتحدة تضطلع من جهة بمهمة تنظيم مؤتمر تزعم انه للسلام، ومن جهة أخرى ثمة أجنحة متنفذة في الإدارة مازالت تحاجج وتسعى لفرض قناعتها بأنه ينبغي على الولايات المتحدة ان تبادر فتهاجم كلاً من سوريا وإيران.

كما رفضت رايس ايضا ان تستجيب أو حتى ان تعلق على الهجوم “الإسرائيلي” مؤخراً على ما زعمت “إسرائيل” انه مرافق نووية سورية يوم السادس من سبتمبر/ ايلول.

ورغم ان الغارة شنت قبل اسابيع إلا اننا بدأنا اخيراً نتبين أبعاد ما حدث، وتؤكد كل المؤشرات والقرائن ان “إسرائيل” سددت ضربة عسكرية استباقية لسوريا، وهو عمل غير مشروع بمقتضى القانون الدولي.

ولكن ماذا عن الغارة وما هي غاياتها، وما الذي استهدفته؟ احتدم الجدل وثارت التكهنات وتباينت الآراء بشكل صارخ في الصحافة العالمية على مدى الأسابيع الماضية بشأن هذه الغارة. ويدرك الناس قاطبة ان عسكر “إسرائيل” لم ولن يفوزوا يوماً بجائزة نوبل للسلام تقديراً لانفتاحهم وشفافيتهم، لكنهم وحتى بمنظور معاييرهم الوحشية المرعبة في قسوتها وتنكرها للشرعية الدولية قد جاوزوا الحد واشتطوا وأوغلوا في التعمية وحجب الحقيقة تبياناً لما حدث.

فعندما ظهرت وتتابعت التقارير الاولى عن الهجوم وشاع أمره أصدر مكتب الناطق العسكري الرسمي “الإسرائيلي” تصريحاً قال فيه: “ليس من عادتنا ان نرد على مثل هذا النوع من التقارير”. ومن ثم جرى منع الصحافة “الإسرائيلية” من نشر معلومات عن الهجوم.

ومن المهم ها هنا ان نفهم العواقب المحتملة للغارة “الإسرائيلية” ففي المقام الأول يمكن لهذا الهجوم ان يبدد آخر بارقة أمل في أي مفاوضات هادفة بناءة في لقاء “السلام” المقرر انعقاده الشهر المقبل. كما يمكن لهذه الغارة من ناحية ثانية ان تنسف مفاوضات الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية وتقوض كل ما توصلت إليه الجهود الدبلوماسية في هذه القضية حتى الآن وإذا تكشف ان الكوريين قاموا بالفعل بإمداد سوريا بتقنية عسكرية نووية، وكان بوش قد حذر دول العالم قبل عام من أن “نقل كوريا الشمالية لأسلحة نووية أو مواد ذات صلة بصناعة مثل هذه الأسلحة الى دول أو كيانات ليس لها صفة الدولة سوف يعتبر تهديدا بالغ الخطورة للولايات المتحدة، ولسوف نحمل كوريا الشمالية كامل المسؤولية عن هذا”.

ومن ناحية ثالثة، ربما كانت هي الأهم على الاطلاق، فإن السؤال الملح الذي يلوح في الأفق بشأن إيران ومسألة ضربها، وكيف ان الأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في العراق يبدو انها تتكرر مرة اخرى في هذه القصة الجديدة. فإبان اضطلاعهم بشن الغارة ناقش “الاسرائيليون” مع الامريكيين طبيعة التهديد وما الذي سيحدث اذا ما تم تنفيذ ضربة عسكرية.

واعترف مسؤول امريكي بشأن ما كان بحوزة “الاسرائيليين” من براهين تحملهم على التحرك فقال: “لم يدر هناك سوى النزر اليسير من النقاش حول الدليل”. وهو تعليق حري به ان يقرع كل أجراس الانذار. وكم يجدر بنا تكرار كلماته تلك التي تقض مضجع كل المهتمين بالحقيقة من ذوي الضمائر الحية: “لا، لم يكن هناك كبير جدل حول الأدلة”.

وربما جمح بك التفكير فخلت أنه بعد الاخفاق التام الذي مني به الامريكيون في العراق وبعد ما تكشف من فضيحة كبرى وتبين خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل التي كانت احدى الذرائع الكبرى لشن الحرب، وبعد كل هذه الكارثة المروعة والمذبحة الرهيبة التي حصدت ارواح ما يقرب من مليون ونصف المليون من المدنيين العراقيين في العراق الجديد الذي صاغته امريكا وانشأته هي وحلفاؤها، ان مسؤولي الاستخبارات سيكونون بعد هذا كله أشد اهتماماً ب”الدليل”، أو نقص الأدلة وانعدامها وانهم سيتوخون الحذر ويكونون حريصين أشد الحرص على مناقشة توفر الأدلة من عدمه قبل توجيه مثل هذه الضربة، إلا ان شيئاً من ذلك لم يحدث.

وهذا التطور، في الحقيقة، يثير القلق حتى التخوم القصوى للتخوف والتوجس، على الأقل لأن الغارة “الإسرائيلية” على سوريا يمكن، وبجدارة، ان تكون هي النذير والنموذج الأولي لهجوم امريكي على إيران، فللهجمتين كلتيهما الأهداف ذاتها، ألا وهي منع الدول “المعادية” من تطوير تقنيات نووية.

فبعد نحو عام لم يكن هناك سوى حفنة ضئيلة جداً من الناس في المجتمع الدولي تعتقد ان مثل هذه الخطة ستحظى بالدعم، إلا ان ضربة امريكية من نوع ما، توجه الى إيران باتت تحظى اليوم بقبول حلفاء دوليين ودعمهم، لا سيما من صديقة الولايات المتحدة القديمة، بريطانيا.

ففي ابريل/ نيسان من عام 2006 عندما طفت لأول مرة على السطح اشاعات، حاول البعض تأكيدها،عن ضربة عسكرية امريكية لإيران سارع جاك سترو، الذي كان آنذاك وزيراً لخارجية بريطانيا، الى القول ان القيام بعمل عسكري ضد ايران أمر “لا يمكن تصوره”. وقال سترو وقتها ان الحكومة البريطانية كانت تعارض مثل هذا العمل. وقال بالحرف الواحد: “أوضحت مراراً وتكراراً موقف الحكوة البريطانية بكل جلاء من هذه القضية، وهو موقف يشاطرنا إياه الجزء الأعظم من دول الاتحاد الأوروبي”.

وبعدها بعام ونصف العام تقريباً ذهبت الحكومة البريطانية في الاتجاه المعاكس تماما وسلكت درب تحول مذهل آخر لم يجابه في الحقيقة بالشجب الذي يستحق ولم تسلط عليه بدرجة كافية الأضواء الاعلامية، فقد وردت تقارير مطلع الشهر الجاري عن أن رئيس وزراء بريطانيا جوردون براون قدم الدعم لخطة رسمتها إدارة بوش لتسديد ضربات عسكرية ضد الحرس الثوري الإيراني.

ومما يدفع امريكا و”اسرائيل” للمضي قدما فيما تخططان له، السكوت المطبق في العالم العربي تجاه الهجوم على سوريا. وسوف يجترئ الطرفان بشكل اكبر لأن “الضربة الاستباقية” العسكرية ضد سوريا قد أثبتت نجاحها حسبما يفترض، لذا ستقوى حجج الصقور في الإدارتين وستقول جوقتهم: ها قد قمنا بتلقين السوريين درساً ولم يشتك أحد منه ولا نبس أحد ببنت شفة، فلم لا نذهب لمهاجمة إيران؟

وأخيراً فإن الرأي العام الأمريكي بدأ يستيقظ محاذراً ومتخوفاً مما يمكن ان يحدث وقد أصبح الهجوم على إيران قضية محورية في السباق لانتخاب رئيس امريكا المقبل، إلا انه حتى تغيير الرئيس ربما لن يحل هذه القضية فقد نقلت التقارير عن احد ابرز مرشحي الحزب الجمهوري وهو عمدة نيويورك السابق رودلف جولياني قوله: “سوف نستخدم الخيار العسكري إذا تعين علينا ذلك”.

وفي غضون ذلك قالت السيناتور هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس الأمريكي ومرشحة الحزب الديمقراطي المؤهلة لخوض الانتخابات الرئاسية، انها سوف تستخدم هي الأخرى القوة لازالة برنامج إيران النووي. كما انها تتعرض لضغوط وتواجه حملة شرسة، وقد صوبت نحوها سهام الانتقاد لتصويتها الشهر الماضي مؤيدة لتشريع يصنف الحرس الثوري الإيراني على انه جماعة إرهابية. ويرى منتقدوها ان تصويتها هذا يمكن ان يستخدم كذريعة لضربة امريكية توجه الى إيران. ويقول مرشح ديمقراطي آخر هو جون إدواردز بهذا الصدد: “يفتح تصويتها هذا الباب امام الرئيس لمهاجمة إيران”.

وإذا كان للعقلاء ان يستقوا من العراق عبرة فهي أنك بمجرد ان تفتح لجورج بوش باباً فإنه يندفع فوراً ويتهور، من دون ان يفكر لحظة واحدة بعواقب افعاله.

* كاتب صحافي وناقد ومحلل سياسي متخصص في قضايا البيئة والصحة والعولمة ويشارك في تحرير موقع “سبين ووتش” على الشبكة لرصد التضليل الاعلامي.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)