مرارا تكرر في وسائل الاعلام وفي المنتديات السياسية ، تبرير الدعوة الى الفدرالية العراقية بنموذج الامارات العربية المتحدة . وبصرف النظر عن مجمل الغايات الخبيثة من هذه المقارنة ، فان ثمة نقطتين جوهريتين تظلان مغفلتين في رد المدافعين عن الوحدة ضد التقسيم . حيث اننا دائما نسمع الرد نفسه - وهو بديهي وصحيح - بان الامارات لم تكن دولة قوية واحدة وقسمت الى امارات ثم ركب لها شكل من اشكال الاتحاد ، بل كانت امارات ومشيخات صغيرة لا حول لها ولا قيمة بين الدول ، فتنادت واتحدت لتصبح واحدة من اهم دول المنطقة. غير ان ما اهو اعمق من هذا على المستويين التاريخي والسوسيولوجي يندرج فيما يلي : على المستوى الاول ، لم تكن تلك المشيخات بحد ذاتها الا نتيجة لاعلان بريطاني قسم المنطقة الخليجية الى فتات من الكيانات ، التي لا تملك شيئا من عناصر الدولة : لا الديموغرافيا ولا الجغرافيا ، وذلك بقصد الحؤول دون قيام دول حقيقية على الارض التي تنتج النفط ، مما يؤمن هيمنة مستمرة للمستعمر الذي قرر الخروج من الباب ليدخل من السقف.
في حين يشكل العراق وحدة جغرافية وديموغرافية تاريخية ربما تكون الاولى في العالم ، وحدة تتمتع بكل عناصر الدول العظمى ، لا الدول فحسب. واذا ما اردنا التشبه بالامارات ، فان ما يوازي الاعلان البريطاني في الخليج هو معاهدة سايكس بيكو في سوريا الطبيعية ، وبالتالي فان القياس يقول بتشكيل فدرالية من دول سايكس بيكو ، اي العراق والاردن وسوريا ولبنان وفلسطين. اما على المستوى الثاني فان الامر اشد خطورة على المدى البعيد . فالتفكيكات القديمة ، من سايكس بيكو الى الاعلان البريطاني الى سلخ السودان عن مصر الى تجزئة المغرب العربي . لم تقم على اساس عرقي ولا على اساس طائفي بالمعنى الدقيق . وبالتالي فانها لم تؤد الى تفسخ الكينونة الاجتماعية الى شرائح متصارعة عنصريا. وهي بذلك اقل خطورة على مسيرة البقاء والارتقاء للامة.
لقد ارتقت البشرية من شكل القبائل العرقية والحروب الدينية الى شكل المجتمع الذي يذيب في اطاره الموحد الاعراق والاديان وجميع المكونات ، ويتشكل من متحدات اجتماعية تتداخل دائريا حتى تصل الدائرة الاكبر : الامة . وبذلك تشكلت الدولة ككيان سياسي دستوري لهذا المجتمع - الامة.
وعليه فان التجزئة الاستعمارية التي تعرضنا لها في بداية القرن ، قد حالت دون قيام الدولة - الامة في العالم العربي ، لكنها لم تشرح دوائر المتحدات الاجتماعية كل بدورها الى فتات من عناصر وطوائف . وحتى حيث حصل ذلك بشكل سياسي كما في لبنان ، فانه اقتصر على المحاصصة دون ان يبلغ حد الانعزال في كيانات سياسية . بل ان الحرب الاهلية لم تكن في احد وجوهها الكثيرة الا صراعا حول محاولة من هذا النوع ، انتهت ولحسن الحظ بفشلها . ولم نر دولة مارونية او غيرها.
من هنا فان ما يحصل في العراق اليوم من محاولة للعزل والفصل على اساس كردي وسني وشيعي ، هو اعادة البلد الى ما قبل المجتمع وما قبل الدولة اي الى ظلمات القرون الوسطى . فهل كان ذلك هو ما قصده جيمس بيكر في تهديده لطارق عزيز في فيينا ؟ ام انه شر تجاوز احلام بيكر نفسها؟ على المدى الابعد تتفاقم خطورة الامر في كونه سيقدم نموذجا عنقوديا للمنطقة كلها ، لن يوفر سوريا ولا لبنان ، الاردن ولا مصر ولا دول الخليج ولا حتى دول المغرب العربي ، بل والدول الاقليمية غير العربية . انها ملحمة جحيم رهيب اذا فتح بابه لن يستطيع احد وقف ناره.

مصادر
الدستور (الأردن)