قبل12 يوماً من موعد الجلسة الثالثة لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، تبدو أبواب الاتفاق موصدة حتى إشعار آخر، رغم وجود أكثر من إشارة تفاؤل. ومع أن المجتمعَين العربي والدولي يريدان حصر الاستحقاق الرئاسي ببعده اللبناني، بات واقع التدخّل الخارجي فيه عصياً على الاستيعاب، ما يضع الاستحقاق في مأزق حقيقي يهدّد بفراغ دستوري ما لم تنقذه خيارات إقليمية ودولية على نحو غير متوقع.
تلك هي خلاصة معطيات التحرّكات الإقليمية والدولية حيال الوضع اللبناني، وقد عبّرت عنها خصوصاً زيارتا وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط لبيروت الخميس الفائت (25 تشرين الأول)، وزيارة الموفد الخاص للخارجية الفرنسية السفير جان كلود كوسران لدمشق الأحد (28 تشرين الأول).
وبحسب مرجع سياسي اجتمع بأبو الغيط، فإن الأخير حضر إلى لبنان بسلسلة اقتراحات أدرجها في نطاق ما وصفه، في القاهرة، بـ«الرؤية»، داعياً اللبنانيين إلى التعامل معها بإيجابية، وكانت بمثابة دق ناقوس الخطر على الوضع اللبناني برمته، لا على الاستحقاق الرئاسي فحسب:
1ـــــ ترى مصر أن الأولوية التي لا تتهاون فيها هي الاستقرار السياسي للبنان، وإجراء الاستحقاق الرئاسي في المهلة الدستورية، وتبعاً للأصول المنصوص عليها، تفادياً للفراغ وللحؤول دون أي ازدواجية في قرار السلطة اللبنانية. وكان يشير بذلك إلى رفض تأليف حكومة لبنانية ثانية مع انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، وأن القاهرة لن تعترف بها.
2ـــــ في إطار التزام مصر الاستقرار السياسي للبنان، لا تتبنى اسم أي مرشح للرئاسة، لكنها تؤيد أي مرشح يتم التوافق عليه.
3ـــــ تعتقد القاهرة أن من الأهمية بمكان أن يتم الاتفاق مسبقاً على عناوين مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس الجديد ضماناً للاستقرار، وتجنباً لترحيل الأزمة من فصل إلى آخر أكثر تعقيداً، وتالياً الانتقال من النزاع على انتخاب الرئيس إلى نزاع على الحكومة الجديدة وبيانها الوزاري.
4 ـــــ ترى القاهرة أن توسيع نطاق عناوين المرحلة المقبلة يتيح لطرفي النزاع تبادل التنازلات، وكذلك مشاركتهم جميعاً في رسم عناصر هذا الاتفاق. وليس المقصود بذلك وضع برنامج سياسي مسبق للحكم الجديد. وعندئذ يكون الاتفاق على الرئيس المقبل من ضمن الاتفاق على هذه العناوين.
وأبلغ أبو الغيط محاوريه اللبنانيين إدراكه التأثير السوري في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، مشيراً إلى تنسيق واسع بين مصر وكل من فرنسا والسعودية في سياق عرض الأفكار المصرية، المحض، التي أتى بها إلى بيروت. وانسجاماً مع هذا الموقف تحدّث عن اتصالات مصرية بسوريا من بينها اجتماعه بوزير الخارجية السوري وليد المعلم على هامش اجتماعات اسطنبول لدول جوار العراق، وزيارة مدير المخابرات العامة الوزير عمر سليمان لدمشق أيضاً.
على أن الأفكار التي حملها الوزير المصري تقاطعت مع الجهد الفرنسي الموازي لدى دمشق. وفيما وجّهت زيارة أبوالغيط الاهتمام إلى الدور اللبناني في الاستحقاق الرئاسي، من غير أن تتجاهل ضمنياً التأثير السوري، فحض اللبنانيين على الحوار والاتفاق على إخراج استحقاقهم الدستوري، كانت باريس تخرج من زيارة كوسران للعاصمة السورية بانطباعات سلبية، وتصف دوائرها الدبلوماسية الزيارة بأنها ملتبسة وغير مشجعة. وخلافاً لما قام به أبو الغيط في بيروت، بأن وزّع الرسائل على الزعماء اللبنانيين، أحالتها فرنسا مباشرة على دمشق.
أما فحوى الانطباعات السلبية التي استخلصتها الخارجية الفرنسية من اجتماعات كوسران بالمسؤولين السوريين، فتتركز وفق مصادر دبلوماسية معنية واسعة الاطلاع على أن بين البلدين سوء تفاهم عميقاً، غير قابل للتذليل بسهولة:
1ـــــ أبلغت باريس دمشق أن زيارة كوسران ينبغي ألا تدرج في سياق انفتاح فرنسي يتخطى الخلافات الكبيرة بين البلدين. كذلك ينبغي ألا تحمّل دمشق لقاء محتملاً بين المعلم ووزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في اسطنبول أكثر مما يقتضي أن يحمل، إما لأن كوشنير لا يستطيع تجاهل نظيره هناك وسيجتمعان في قاعة واحدة، وإما لأن هذا اللقاء غير معدّ سلفاً في برنامج الخارجية الفرنسية ولا جدول أعمال له، وإما لأن باريس تريد من دمشق ألا تنظر إلى لقاء اسطنبول على أنه استحقاق مهم في العلاقات الفرنسية ـــــ السورية التي لم يحن بعد أوان مناقشتها بعمق وجدية. تالياً ليس لدمشق أن تتوقع مبادرة فرنسية جديدة حيالها قبل إنجاز استحقاق الرئاسة اللبنانية.
2ـــــ تصرّف كوسران في دمشق على أن فحوى الرسائل أقوى من الزيارة نفسها. ومع أنه لم يحمل رسائل جديدة، حرص على تأكيد الرسائل السابقة التي، في عرف باريس، تعرفها دمشق جيداً، وتفهم مضمونها كذلك.
3ـــــ انزعج كوسران من إيحاء سوري له بأن دمشق كانت تتوقع أن يحمل معه لائحة بأسماء مرشحين محتملين للرئاسة اللبنانية، تؤيدها باريس وتريد مناقشة دمشق فيها. سرعان ما اضطر الدبلوماسي الفرنسي إلى تبديد هذا الإيحاء بتأكيده لمحاوريه السوريين أنه غير مكلف حمل لوائح بأسماء، ولا تلك مهمة حكومته التي تنظر باستغراب إلى مثل هذا الاعتقاد لتعارضه مع مبدئها بعدم التدخّل في شأن لبناني داخلي، أضف أنه يتعارض مع القرار 1559.
4 ـــــ شعر كوسران بخيبة أمل مما سمعه في دمشق. ورداً على إعرابه عن قلقه من وجود تدخّل سوري في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، قال له محاوروه السوريون بكثير من التبسيط إن ثمة تدخّلاً غربياً في الشؤون اللبنانية أوسع نطاقاً من تدخّلهم هم، وسألوه عن البراهين والأدلة التي يحملها على موقفه هذا.
5 ـــــ كذلك عبّر الموفد الفرنسي عن استيائه من الموقف السوري الغامض والملتبس حيال انتخابات الرئاسة اللبنانية. لم تقل دمشق ما تريده من الاستحقاق، ولم تقل إنها تريد رئيساً للبنان لا يناصبها العداء، ولم تقل إن كان لديها مرشحون محددون أم إنها تؤيد الفراغ الدستوري. بذلك، لم يستطع الزائر الفرنسي استنتاج الجواب السوري الذي تلح عليه حكومته، وهو كفّ دمشق تدخّلها في الاستحقاق الرئاسي اللبناني وترك اللبنانيين يختارون رئيسهم بأنفسهم. واستطراداً لم يتأكد كوسران من المسؤولين السوريين إن كانوا يريدون استقرار الوضع في لبنان أو لا، علماً بأنه أبلغ إلى دمشق الموقف الذي كانت قد رددته باريس تكراراً، وهو أنها تتفهّم وجهة النظر السورية بعدم انتخاب رئيس يناصبها العداء. كما أنها لم تلمس في أي من التصريحات والمواقف التي أطلقها المرشحون للمنصب أن أياً منهم يريد القطيعة والعداء مع سوريا، وأنه يريد أن يجهد لإسقاط النظام السوري.