تشيخ الأفكار كما تشيخ الأشجار وتتخشب كما تتخشب، ولأن الاطار الفكري الصحيح هو من أهم متطلبات التمكين لأي تنظيم أو حركة تنشد الخلاص وترنو للسيادة والسؤدد وترغب في خوض المواجهة الحضارية مع خصومها، فأنه سيكون محكوماً عليها بالخسارة في حال لم تعد الحياة لمنطلقاتها الفكرية عبر اعادة تقييمها واختبار مدى صلاحيتها للمرحلة. للأسف فأننا في فلسطين، لازلت منطلقات تنظيماتنا الفكرية متمددة في استراحة فقهاء العصر العباسي وكأن توالي القرون وتتابع الاجيال لم يكن كافياً لكي نعيد اختبار قناعاتنا. فالتنظيمات تريد من الفرد أن يحشر دماغه في زنزانة واحدة ويعتمد نموذج واحد ووحيد للتفكير متوارث لقرون، والويل الثبور لمن يسمح لنفسه بالتفكير الابداعي المستقل، حتى ولو على طريقة التجربة والخطأ، فلوائح الاتهام جاهزة دائما ، فإما : التكفير او الخيانة او السقوط ..... الخ من التهم الجاهزة والاحكام المسبقة. ولا خلاص لنا إلا من خلال صحوة فكرية حقيقية تضع حداً لحالة التردي والتقهقر التي نحياها، صحوة تقوم على نقد فكري صحي بدون نزع الشرعية عن الحق في الاختلاف، لأنه لا خلاف حول خطورة المأزق الذي نحياه.

لا مجال أمامنا للنهوض في حال ساد العقل النقلي وظل اتصالنا بالعالم مشوش ورحمنا المعرفية عقيم. فالعقل النقلي يمرر الافكار بدون تصفية ويكفيه انها تصدر عن القائد او المعلم الملهم، وينشر هذه الأفكار بحماس واخلاص أكثر من الوعي ويبررها بالدفاع عنها بضراوة والدخول في صراعات مع الأفكار الاخرى بدون علم أو هدى لا كتاب منير. في حين أن العقل النقدي يراقب الأفكار بدون ملل، ويصحح الأخطاء ويتحرر من الشعور بالمعصومية، ويطور آلية نقد ذاتية وحتى النقد يخضعه للنقد الذاتي. غالبا ما يتم قياس صلاحية الافكار بربطها بقدرتها على تغيير الواقع على الارض، وفي حال لم تنجح الأفكار في تغيير الواقع المزري فأنه يتوجب اعادة تقييمها من جديد، لا مجال لتقديسها والتعامل معها كمسلمات خارج نطاق النقد. أنه من أكثر اللحظات بؤساً عندما يواجه المرء ما يعتبرونه مقدسا بغير حق، من هنا فأن أصحاب الافكار الجديدة والخلاقة يواجهون دوماً بالدهشة والرفض والتشكيك والطعن، فأصحاب الأفكار المتخشبة، لا يدركون أنهم أصبحوا شكلاً محنطاً، لذا عندما يواجهون اللأفكار الجديدة يقع الصراع على أشده بين الجديد والقديم، مع أنه لا أحد يختلف على بؤس الوضع القائم وكلنا يتمنى لو تغير الواقع الحالي، لكن في نفس الوقت فإنهم ينقضون على كل من يطرح الجديد، فإما ينسحب وإما أن يكون عرضة للتشنيع والقذف والتشهير.

لكن الزهد بما في ايدي ولاة الأمر، هو متطلب أساسي لنجاح أولئك الذين ينشدون التغيير والإصلاح الحقيقي........فلا يمكن لمثقف حر أن يسعى لتغيير واقع، وهو يفيد منه ويقتتات عليه..........يروى أن ديوجين، فيلسوف مقدونيا العظيم كان مستلقياً على شاطئ البحر الأدرياتيكي في مدينة " كورنت " المقدونية، عندما أحاط به الاسكندر الأكبر بجنوده. أعتقد الاسكندر أن ديوجين سيطير فرحاً عندما يعلم أنه قد جاء لمقابلته والتعرف عليه. لكنه كتم غيظه لعدم اكتراث ديوجين لمجيئه، و حافظ على برودة اعصابه، ووجه حديثه اليه قائلا " بامكانك أن تطلب مني ما تشاء وأنا سأكون رهن اشارتك، لا تتردد " . أشاح الفيلسوف الكبير بوجهه نحو أمواج البحر المتلاطمة، وقال للاسكندر " فقط لا تحجب عني الشمس !!!!