وهكذا فقد علمنا أنّ طغمة عسكرية تكمّ أفواه البورميين منذ سنين عديدة وأنها قمعت بالحديد والنار تمرّداً عام 1988. وأنّ رهباناً بوذيين يتظاهرون تظاهراً سلمياً مطالبين بالديمقراطية. وأنّ أولئك الجنرالات الأشرار يتمتعون بدعم الأشرار الصينيين. وأنّ الأنغلوساكسون الصالحين الطيبين يريدون تقديم العون للبورميين عن طريق اقتراح عقوبات اقتصادية، ذات بعد عالمي، على الطغمة العسكرية.

وواقع الحال أنّ الأخبار الخاصة بميانمار، والمأخوذة عن الصحافة الأنغلوساكسونية قابلة للتصديق على قدر تلك التي تنشرها بخصوص العالم العربي. فتنسخ الصحافة العربية بكل أمانة نسيجاً من المغالطات، ناهيك بالأكاذيب التي تخدم، كما هي الحال على الدوام، مصالح واشنطن.

سوف أسعى في هذا الحديث لأنْ أحلّل الطريقة التي يعتمدها الأنغلوساكسون (وأضمّ في هذه الزمرة إسرائيل الى جانب المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندة)، الذين أصبحوا أساتذة مهرة في فن التدخّل وفي الدعاية ، وبدون علم منا نحن في أغلب الحيان. وتقدّم لنا الحالة البورمية مثالاً على طرائقهم.

لماذا ترغب واشنطن في قلب نظام الطغمة العسكرية؟

لنبادر فنتفحّص الوقائع أولاً:

يخضع البورميون في الواقع لحكم طغمة عسكرية يرمزون إليها بكلمة سلورك (SLORC )، وهي على درجة عالية من حيث استخدام العنف. فلا تتوانى عن تحويل قرى بأكملها الى حالة من العبودية، من أجل إنجاز أعمال ذات طبيعة عامة. كما أنها قمعت أعمال التمرّد عام 1988 فقتلت ما يربو على ثلاثة آلاف شخص. إلا أنّ ذلك لم يحرّك ساكناً لدى الأنغلوساكسون حتى عام 2002. فقد تركت واشنطن لليابان جانب التوظيفات الكبرى في ميانمار، في حين تولّت شركة توتال الفرنسية ومعها شركة شوفرون ـ تكساكو، أمر استثمارات النفط والغاز. وكان تكتفي وزارة الخارجية الأمريكية بالتأسّي لحال وضع حقوق الإنسان في تلك البلاد، ثم تنصرف للاهتمام بشؤون أخرى.

إلا أنّ الجماعة العسكرية الحاكمة ضاعفت في السنوات الخمس الأخيرة من حالات الاحتكاك بواشنطن، إلى حين أن اتخذت وزارة الخارجية قرارها بمباشرة حملة واسعة من إثارة القلاقل، في سبيل إخضاع الجنرالات.

يتمثّل المصدر الأول لعائدات البلاد في زراعة الخشخاش وتصديره على شكل هيرويين. صحيح أنه لا تتوفـّر لدينا أرقام في منتهى الدقة حول تجارة ممنوعة بموجب اتفاقية فيينا، لكنّ الوكالة الدولية المختصّة بمكافحة المخدّرات والجريمة، تقدّر الإنتاج اعتماداً على مراقبات الأقمار الصناعية.

ينبغي على ميانمار أن تتزوّد بكمية كبرى من المواد الكيميائية المسمّاة «السّابقة»، من أجل تحويل الخشخاش الى مُنتـَج قابل للاستهلاك. تنتج تلك المواد بكثرة شركةٌ كيميائية فرنسية وتبيعها عن طريق سنغافورة. أما تصدير الإنتاج فينتهي بوصوله الى المستهلكين في البلدان الغربية عبر شبكات سريّة تتولى وكالة الاستخبارات الأمريكية، الـ سي آي إيه ( CIA)، الإشراف عليها. وأما الأرباح التي تحققها الوكالة من هذه التجارة القاتلة،فتـُستخدَم جزئياً لتمويل عمليات ترغب الـ CIA في تنفيذها من غير اللجوء إلى موازنات الكونغرس، أي من غير أن يكون عليها تقديمُ تقارير عن عملياتها.

والحال أنّ الولايات المتحدة، ومن حين «تحرير» أفغانستان، سمحت بزراعة الخشخاش، على نحو لم يسبق له مثيل، في المناطق التي تشرف عليها عسكرياً. فيتمّ نقل «البضاعة» بواسطة قوات التحالف إلى القواعد العسكرية في ألمانيا، حيث يجري من هناك تسويقها في أوروبا.

فتتولى واشنطن هنا، أو بالأحرى لانغلي، السيطرة الكلّية على الإذن بالتداول، وهي ليست بحاجة لأن تكافيء شقيق الرئيس الأفغاني كارزاي على قدر ما كانت تطالب به الزمرة العسكرية البورمية. وقد أدى هذا الوضع إلى زيادة مفرطة في الإنتاج على الصعيد العالمي. ولما كانت الـ CIA تقوم بدور المنظّم للسوق، فقد أقنعت الزمرة العسكرية بتخفيض إنتاجها. وذاك ما قد حصل فنقصت الكميات بمقدار الثلث في غضون عامين. وعلى الرغم من ذلك، ظلّت ماينمار تزرع من الخشخاش ما تصل مساحته الى حوالي اثنين وعشرين ألف هكتار (أي ما يقرب من 8% من مجموع الإنتاج العالمي)، في حين تزرع أفغانستان ما مساحته 165 ألف هكتار.

تمتلك ماينمار احتياطيات كبرى من النفط وخصوصاً من الغاز. والمستثمر الرئيس هو شركة توتال الفرنسية ومعها شركة يونوكال الكاليفورنية، التي كان من ملاكها القيادي الرئيس الأفغاني أحمد كارزاي، إلى حين وضعه من قبل قوات التحالف على رأس الدولة في كابول. في عام 2005، قامت شركة شيفرون تيكساكو بابتلاع يونوكال، التي تخلّت كونداليزا رايس عن إدارتها في عام 2001 . لكنها ظلّت تقيم معها علاقات ودّية.

ومضت الأمور على أحسن ما يرام إلى أن أدخل الـ«سلورك» SLORC متعاملين جدداً من كوريا الجنوبية والهند وغيرهما.

وبالإضافة إلى ذلك، قبلت رانغون ببناء خط أنابيب نفط صيني على أراضيها. ولما كانت بكين لا تتمتع بمنفذ غربي على المحيط الهندي، فقد صار بمقدورها إفراغ ناقلاتها النفطية القادمة من السودان أو من إيران في خليج البنغال، لتزوّد على هذا النحو مقاطعتها المسماة يونان، مقابل دفع رسوم الترانزيت.

* هنالك تحديداً تعقـّدت الأمور. فقد اعتمدت الولايات المتحدة بدءاً من تقرير باول فولفوفيتس عام 1992، نظرية استراتيجية لاستباق بروز دولٍ قمينة بمنافستها على الزعامة في منطقة ٍما من العالم، ومن شأنها فوق ذلك أن تشكك في وضعها قوة ً أعظم ووحيدة في العالم. قامت واشنطن إذن بقصّ أجنحة الاتحاد الأوروبي تدريجياً، لتقبل به بوصفه مجالاً اقتصادياً لها، لا بوصفه قوة سياسية. ثم حاصرت روسيا وعزلتها. وقامت بعدئذ بوضع قيود على تزوّد الصين بالطاقة وعلى نموّها الصناعي.

كان الهدف من بناء الحوارالثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا ومن إصلاح منظمة حلف شمال لأطلسي، تحويل التحالفات العسكرية الأميركية إلى نظام إجمالي لمراقبة «الفضاءات المشتركة»، أي المياه الدولية والأجواء والفضاء.

أمّا مبادرة الأمن ضدّ انتشار (أسلحة الدمار الشامل)، فترمي على وجه الدقّة، ضمن هذا الإطار ـ تحت ذريعة الكفاح ضد القرصنة والإرهاب ـ الى مراقبة الطرق البحرية التي تستخدمها ناقلات النفط الصينية. وتتولى منذ الآن سفن عسكرية تابعة للتحالف «تأمين» تلك الطرق، مما يعني بخلاف ذلك، أنها تستطيع إغلاقها أيضاً.

أما الصين الحريصة على الحفاظ على حريتها، فتقيم محطات مراقبة إلكترونية على طول تلك الطرق.

ينجم عن ذلك أنّ واشنطن وبكين تخوضان، بالوكالة، حرباً لا هوادة فيها لمراقبة الجزر والسواحل حيال تلك الطرق. ومنها على سبيل المثال، إعادة إحياء نزاع التامول في سريلانكا.

ضمن هذا السياق زوّدت بكين رانغون بمحطات رادار وسفن دوريات بحرية من نوع هينان بقيمة مليار ونصف من الدولارات. ثمّ أُقيمت عدة محطات مراقبة إلكترونية على الجزر والشواطيء البورمية، وقد تسببت موجة التسونامي في نهاية عام 2005 في تدمير واحدة منها. إنّ هذه التجهيزات هي التي دفعت بواشنطن لأن تتخذ قراراً بقلب الزمرة العسكرية الحاكمة في بورما، وهي التي كانت حتى الآن راضية عنها بشكل أو بآخر. وعلى الرغم من أنّ الصحافة الغربية لا تتحدّث عن ذلك أبداً، فإنّ تلك الأسباب تحديداً ـ وليس نشر اليمقراطية ـ هي المراهنات المركزية على الأحداث الراهنة.

وبدا كأن كافة مواضيع الخلافات التي أشرنا إليها غير كافية في نظر ماينمار، حين قامت في شهر أيار الماضي بتوقيع اتفاقية تعاون مع روسيا. ولسوف تقوم موسكو ببناء محطة كهربائية نووية، تخضع لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

كيف قامت واشنطن بإثارة القلاقل في البلاد؟

بقيت مسألة وضع استراتيجية لزعزعة الاستقرار في البلاد وإعداد فريق بديل يحلّ محلّ سلورك SLORC ، تكون مهمته تقليص زراعة الخشخاش أو تخفيض هوامش الربح المحلية، وفتح السوق أمام المؤسسات الأنغلوساكسونية، وقطع خط أنابيب النفط الصيني وتفكيك محطات المراقبة الإلكترونية.

عندئذ قامت واشنطن بنشر أدوات عملها التقليدية، وفقاً لوصفة مجرّبة تستخدمها هي نفسها في كل مكان من العالم. أما جهاز العمل في ماينمار، فهو من وجهة النظر هذه مماثل لتدخّلات أخرى عديدة في الماضي ولتدخلات في المستقبل.

لقد قامّت الولايات المتحدة في المرحلة الأولى، بصنع شخصيات ومجموعات سياسية تعلن انتماءها لـ «ديمقراطية السوق» (ليس لهذه التسمية أية علاقة بالديمقراطية ضمن المعنى الأثيني للتعبير، أي لحكم الشعب بالشعب)، وتولّت تمويلها علناً. ونظّمت في الوقت نفسه وفي الخفاء، أعمالاً إرهابية لتظهر عجز الزمرة الحاكمة عن ضبط الوضع فوق أرض بلادها.

ليست هنالك، بكل تأكيد، أية صلة عضوية ما بين «الديمقراطيين» من جهة وبين «الإرهابيين» من جهة أخرى. ولسوف تكون الشخصيات والمجموعات الديمقراطية في بورما آخر من يعلم أنّ اليد التي تغذّيهم وتزعم أنها تريد لهم الخير، هي التي تقوم أيضاً بزرع القنابل في الشوارع وقتل أصدقائهم.

إذا ما تناولنا دور الديمقراطيين، فإن الولايات المتحدة تتولى تمويل «جيل 88». والمقصود بذلك زعماء التمرّد عام 1988،الذين يواصلون الكفاح من سبيل الحرية، على الرغم من الأعوام التي أمضوها في السجون. إنّ الوجوه الرئيسة في هذه الحركة هم مناضلون مثاليون لا يفكّرون إلا في خدمة بلادهم. وليس لدى هؤلاء الزعماء أي شعور بخيانة وطنهم حين يقبلون بالدعم اللوجيستي من الولايات المتحدة. وهم واثقون من أنهم إذا ما توصّلوا إلى استلام الحكم، فإنهم لن يقعوا فريسة للإفساد على يد مموّليهم الحاليين. ويشهد ماضيهم أنهم قادرون على ذلك. لكنّ هذه المسألة لن تُطرح أبداً. فقد غرست الـ CIA بيادقها في قلب حركتهم. وإذا ما وصل «جيل88» إلى سدّة الحكم، فإنّ الوجوه التي تتصدى للولايات المتحدة سوف تزاح أثناء الاضطرابات «قضاءً وقدراً»، لتأتي موجة ثانية فتحلّ محلّهم وتكونَ محشوّةً بعملاء موالين للولايات المتحدة. ليس على الثوريين، في الواقع، أن يكافحوا ضد الطغمة العسكرية بدعم من الولايات المتحدة، لكن أن يقاتلوا الطغمة أولاً ثُم الولايات المتحدة. وإنّ احتمال خروجهم من معركتين متتاليتين ظافرين لضئيل. وتكمن سذاجة كبرى في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تريد الخير للبورميين وأنّ بعض المناضلين الثوريين يستطيعون احتواءَ جشع الامبراطورية الأمريكية حين تكشّر عن أنيابها.

لقد تلقى«جيل88»، ومعه بعض المجموعات الصغيرة، خلال عامين، مليونين ونصف من الدولارات، من منظمة اسمها المخصصات القومية للديمقراطية. ويزعمون أنها منظّمة غير حكومية. أما في واقع الأمر فهي منظمة يصوّت الكونغرس على تمويلها ضمن خطة موازنة وزارة الخارجية.

أما بشأن الدور الموكل للإرهابيين الذين لا يمكن التغلّب عليهم، فهنالك خلايا مجهولة الهوية، وهي مشكّلة على الأرجح من مأجورين بورميين يتولى إدارة شؤونهم عملاء أمريكيون. وهم يزرعون قنابل في الأسواق تتسبب بمئات الضحايا من المدنيين. ولا تأتي الصحافة الغربية على ذكر ذلك أبداً. مثلما كانت تتكتّم تماماً عن أعمال الإرهابيين الذين كانوا يفجّرون القنابل أمام دور السينما وفي المراكز التجارية في كوسوفو عام 1998.

وتعطي تلك التفجيرات الشعب انطباعاً بأنّ الأحداث قد تجاوزت الزمرة الحاكمة وأنّه ما من أحد آمن حتى لو كان بمعزل عن كل نشاط سياسي. وهي تدفع بالسلطة للدخول في حلقة مفرغة قوامها الاستفزاز فالقمع إلى حد استخدام الشرطة استخداماً لا يقبله العقل، مما سيعود عليها بكراهية من الشعب كله بالإضافة إلى الاستنكار الدولي. فالوضع يماثل تماماً التفجيرات التي حصلت في كوسوفو مما دفع بميلوزيفيتش إلى القيام بعمليات قمع عمياء، لتصير بدورها مسوّغاً لقيام حلف شمال الأطلسي بتدخّل عسكري.

ولم يتوانَ العمى الذي يميّز الأنظمة الديكتاتورية كلها، عن جعل الطغمة العسكرية تضع الديمقراطيين والإرهابيين في سلّة واحدة، فتتهم ظلماً «جيل 88» بمسؤوليته عن التفجيرات.

المسألة الثانية أنّ الولايات المتحدة اختارت منظمة داخل المجتمع البورمي وتلاعبت بها لتجعلها قادرة على تحريك الشعب ضدّ الزمرة العسكرية. والمقصود بذلك ، كما في كافة الحالات تقريباً، الهيئة الدينية المحلية. وواقع الحال أنّ الديكتاتوريات، حين تقمع المعارضات السياسية، تترك في أغلب الأحيان الساحة ، وقد أضحت خالية، للحركات الدينية.

كانت البوذية، قبل الانقلاب العسكري، عامل نقل للحداثة، فأمكن بهذا الوصف أن تكون شريكاً في المثل الديمقراطي الأعلى. لكن رجال كهنوتها عقدوا لزمن طويل صفقات مع الزمرة الحاكمة، ومنحوها بركتهم كلما كان ذلك نافعاً لها. بل جرى تشكيل مجلس من الرهبان على يد سلورك SLORC.

ليس هؤلاء الرهبان «كهنة» على الشكل الصيني للبوذية: إنهم يعلنون نذوراً زمنية ولا يسعهم أن يتزوجوا. ويتعلق الأمر بمؤمنين بسطاء، يعيشون في مرحلة معينة من حياتهم معزولين عن العالم عدة شهور، وغالباً ما يكون ذلك في نهاية مرحلة المراهقة، أو نهاية مرحلة النشاط في حياتهم. فلا يغدو لديهم من دخل آنذاك سوى صدقات المؤمنين الذين يقدّمون لهم الطعام. ويتراوح عددهم ما بين 400 و500 ألف راهب، وهو عدد كبير يناهز عدد العسكريين. أما حين يكون الناس في حالة من الفقر المدقع وليس لديهم من هباتٍ يقدمونها، ولا يعود الطعام متوفراً للرهبان ، فإنهم ينزلون الى الشارع.

إنّ المضاعفة المباغتة لأسعار البنزين والنقل هي التي دفعت بالرهبان إلى التظاهر. ولم يكن يخطر في بالهم على الإطلاق التعبير عن مطالب سياسية، ولا حتى المطالبة بالديمقراطية. كانوا يطالبون فقط بأن يظلّ المدنيون محافظين على قدرتهم الشرائية ، لكي يتاح لهم الحصول على صدقات.

علينا عند هذه النقطة أن نتساءل عمّا دفع بالزمرة العسكرية إلى مضاعفة أسعار البنزين والمواصلات. لكن ليس من معلومات متداولة حول هذه النقطة.

كيف تتلاعب واشنطن بالرأي العام؟

ما إن بدأت الأزمة حتى جعل منها الرئيس جورج بوش الأوليّة المطلقة في السياسة الدولية. فاستبعد في مداخلته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مشكلات الشرق الأوسط وصبّ اهتمامه على التنديد بـ سلورك SLORC.

6 ركّزت محطة سي إن إن CNN نشراتها الإخبارية على بورما. ونشرت القناة الأمريكية صوراً للمظاهرات والقمع، زاعمة أنها التُقِطت من قبل مصوّري فيديو هواة وأنها أُرسِلت عبر الإنترنيت. وكان المقصود من ذلك العرض إشاعة الاعتقاد بأنّ حدود البلاد مغلقة، وأنّ الصور هي نداءاتُ استغاثة يطلقها مواطنون بسطاء، وليست من عمل صحفيين محترفين يمكن الشكّ في نزاهتهم.

كان القصد من ذلك الضجيج كله الترويجَ للفكرة التالية: ينبغي على «الأسرة الدولية»، إن كانت راغبة في مدّ يد العون للبورميين المضطهدين، أن تفرض عقوبات اقتصادية على بلادهم. وقد أعادت وسائل الإعلام العربية تكرار هذه الفكرة، من غير أن تُعمِل فكرَها فيها على الإطلاق. علماً أنّ المثال الذي قدّمته اثنتا عشرة سنة من العقوبات الاقتصادية ضد العراق، في ظل حكم صدام حسين، كان ينبغي أن يكون كافياً لتحريضها على التفكير.

فما من أحد يستطيع أن يفسّر كيف لعقوبات اقتصادية، وهي عملية حربية، أن تقوى على المساعدة على ازدهار الديمقراطية، ذلك النظام السياسي الرائع الذي هو رفاهية الأغنياء. إنّ العقوبات ضدّ كوبا وكوريا الشمالية أو العراق كان ترمي إلى حرمان تلك البلدان من كل قوة جذب حيال جيرانها، وإضعافها عسكرياً حتى يغدو غزوها ممكناً في المستقبل. وإنّ عقوبات تُفرض على ميانمار لن تكون ذات تأثير عسكري إلا على المدى الطويل.

إنّ ما تقترح واشنطن في الوقت الراهن هو إرغام التوظيفات على الانسحاب من ميانمار. ولا يبدو أنّ الجار التايلاندي هو المقصود بهذا الإجراء، علماً أنّه الشريك التجاري الرئيس لرانغون. ولا هي اليابان، الموظّف الأول للأموال في البلاد، على الرغم من إعلان طوكيو عن عزمها على توقيف التوسّع بتوظيفاتها هنالك. ولا هي الصين ولا روسيا، فهما غير معنيتين أبداً (ليس وجودهما الاقتصادي توظيفاً، بل هو مُعطى استراتيجي). إنّ الموظِّف الوحيد المقصود، إنما هو شركة توتال الفرنسية، التي يُرجى منها التخلي عن مكانها لصالح الشركات النفطية الأمريكية العملاقة، مثلما هو مطلوب منها أيضاً أن تغادر إيران.

إنّ المثال البورمي يُظهر طريقة عمل الهيمنة الأنغلوساكسونية على أفكارنا. وتثير وسائل الإعلام التي يرجع الجميع إليها انفعالاً جماعياً (جرى ذلك هنا بعرض صور المظاهرات وأعمال القمع ) لكنهم يضعون قناعاً يحجب المصالح الاقتصادية والعسكرية للإمبراطورية الأمريكية، ويتوصّلون الى تشويه إدراك الحقيقة (يجعلون من الديكتاتورية العسكرية في بورما على سبيل المثال، نتاجاً رديئاً للشيوعية الصينية). وكاد يصل بنا حسن نوايانا، حدّ التوجّه للمشاركة في اليوم العالمي للديمقراطية في بورما، الذي أشرفت على تنظيمه وزارة الخارجية الأمريكية، وهي «بطل» معروف من أبطال الحرية.

إنّ الشعب البورمي بحاجة للمساعدة، لكن ليس بهذه الطريقة على الإطلاق.