عندما غادر الموفد الفرنسي جان كلود كوسران دمشق حمل معه ملخصاً من الملاحظات السوريّة المتعلقة بالوضع في لبنان والاستحقاق الرئاسي. واستناداَ الى تقدير خاص، حاول كلّ من نائب الرئيس فاروق الشرع، ووزير الخارجيّة وليد المعلم توسيع الهامش ليتناول موقف سوريا من الملفات الساخنة في المنطقة ومؤتمر الخريف، إلاّ ان الدبلوماسي الفرنسي أكد بأن مهمته تنحصر في ترتيب جدول أعمال الاجتماع ما بين وزير خارجيته برنار كوشنير والوزير المعلم في اسطنبول والخاص بالاستحقاق الرئاسي.

وفي بيروت أكدت مصادر دبلوماسيّة لبنانيّة لـ«السفير» أنها لم تطلع على ورقة مكتوبة اسمها «النقاط الست» التي ترددّ أن الوزيرين كوشنير والمعلم قد توصلا إلى تفاهم بشأنها. لكنها أضافت: سواء أكانت هناك ورقة خطيّة، أم لا، فإن معظم العناوين التي تمّ التفاهم بشأنها خلال زيارة كوسران إلى دمشق قد جاءت على ذكرها الورقة التي نشرت بعض وسائل الإعلام نصّها.

وتفيد بعض المعلومات التي وصلت الى بيروت أن وزيرة الخارجيّة الاميركيّة كونداليسا رايس أبدت امتعاضاً من « الاستقلاليّة» التي بلغها هامش التحرّك الذي يقوده الوزير كوشنير بانفتاحه على السوريين. صحيح أنه أوفد كوسران الى دمشق بالتنسيق والتشاور مع واشنطن، ولكن أحداً لم يكن يتوقع ان يتوصّل الى مشروع مسودة اتفاق بالنقاط المطلوب حسمها في ما يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي. ولذلك أوفدت على جناح السرعة مساعدها لشؤون الشرق الاوسط دايفيد ولش الى باريس في مهمّة متعددة الأغراض من بينها الإطلاع من المسؤولين الفرنسييّن على حقيقة ما توصّل اليه الموفد الفرنسي في العاصمة السورية من تفاهمات.

وتؤكد المصادر أن رايس كانت ممتعضة جدّا من النقاط التي توصّل كوسران الى حسمها مع المسؤولين السوريين حول لبنان، وإن التصريح التي أدلت به وهي على متن طائرتها الى اسطنبول، وانتقدت فيه «التسويات في الزمن المتأخر» لم تكن تستهدف فيه اجتماعات العماد ميشال عون مع النائب سعد الحريري بقدر ما كانت تستهدف فيه برنامج لقاء كوشنير ـ المعلم في اسطنبول، والنقاط التي تمكن كوسران من حسمها في العاصمة السورية كدليل تأكيد على إمكان حصول هذا الاجتماع، وأيضاً على ضمان ظروف نجاحه قبل انعقاده.

وتفيد المعلومات الأوليّة التي توافرت في بيروت عن اجتماع اسطنبول والأجواء التي أحيطت به، بأن الوزيرة رايس كانت تتصرّف «كاللبوة الجريح» بعد التفاهم الذي تمّ بين كوشنير والمعلم، وذلك لأسباب واعتبارات منها:

أولاً: الحرص على الاستفراد وحدها بورقة لبنان وبالاستحقاق الرئاسي ضمنا، وأن يكون التحرك الفرنسي في إطار الهامش الذي تحدد معالمه واشنطن.

ثانيّا: إن رايس كانت تعارض اي انفتاح فرنسي على سوريا، وكانت تريد دعوة دمشق الى اجتماع اسطنبول لإملاء الشروط عليها، لا لمحاورتها.

ثالثا: لقد هال رايس ان يصار الى التوصل الى تفاهم فرنسي ـ سوري على جوامع مشتركة في ما يتعلق بلبنان وبالاستحقاق الرئاسي تحديداً بمعزل عنها، وكانت ردّة فعلها غاضبة متسلّطة وتفتقر الى اللياقات الدبلوماسيّة، فأصرت على استبعاد الوزير المعلم عن اجتماع اسطنبول الخاص بلبنان، وعدم دعوة سوريا اليه، والتصرّف على قاعدة «الأمر لي»، ووضع نصّ البيان الختامي من دون مناقشة مضامينه مع طرف حليف، وعرض مسودته على المؤتمرين للأخذ به، وهذا ما حصل.

وجاء هذا التصرّف وعلى هذا القدر من الشخصانية والانفعال ليؤكد على وجود تباينات في الموقفين الاميركي من جهة، والفرنسي ـ الأوروبي من جهة أخرى، ذلك ان وزيرة الخارجيّة الاميركيّة قد حددّت مواصفات صارمة: لا صفقات، ولا تسويات بين قوى الموالاة والمعارضة، وضرورة انتخاب رئيس من قوى 14 آذار، ومن دون التأكيد على التقيّد الحازم بأحكام الدستور، ونصاب الثلثين، او التوافق والتفاهم والسعي الى الإجماع، واعتبار أن اي عمليّة انتخابيّة هي ممارسة ديموقراطيّة، وأي ممارسة ديموقراطيّة يحميها الدستور، وبالتالي هي بنظرها دستوريّة وشرعيّة، في حين ان الفرنسييّن ومعهم الاوروبيون يشددون على انتخاب رئيس يؤمن بمبادئ «ثورة الارز»، ولكن ان يكون اختياره توافقيّاً، وان يتمّ انتخابه وفق أحكام الدستور وبأكثرية ثلثي أعضاء المجلس النيابي كي يتمكن من الوصول الى قصر بعبدا برضى جميع اللبنانيين، وبالاتفاق والتوافق في ما بينهم.

وفيما يتوقع بعض الدبلوماسييّن الأوروبييّن عودة وفد «الترويكا» الفرنسيّة الإيطاليّة الإسبانيّة الى بيروت هذا الاسبوع للمساعدة على مقاربة الاستحقاق الرئاسي بشكل توافقي، من دون الدخول في التفاصيل حول ما إذا كان الوفد على مستوى وزراء الخارجية أو ما دون، تؤكد بالمقابل أوساط دبلوماسية عربيّة في بيروت بأن وفداً رفيعاً يمثل الجامعة العربيّة يحتمل وصوله الى بيروت، منتصف هذا الاسبوع، للنظر في كيفيّة مساعدة الفرقاء اللبنانيين على انتخاب رئيس توافقي في 12 الجاري.

وإذ وصفت المصادر الاوروبيّة «بيان اسطنبول» الختامي الخاص بلبنان بـ«الحازم»، أكدت مصادر دبلوماسية لبنانيّة بأن البيان قد صيغ بعبارات مباشرة ومختارة بعناية ليكون بمثابة الزبد الذي يخفي تحته كمّاً هائلاً من الخلافات والتباينات في وجهات النظر حول كيفيّة مقاربة الملف اللبناني المأزوم، وتحديداً الاستحقاق الرئاسي...

وتشير هذه المصادر الى ان الايام الفاصلة عن موعد 12 الجاري هي الكفيلة بتوفير الأجوبة وتظهير النتائج التي توصّل اليها المؤتمرون، إلاّ ان المظهر الاستعراضي كان غنيّاً بمدلولاته، إذ من المرّات القليلة، وربما النادرة يعقد اجتماع على هذا المستوى وبهذا العدد من الدول للبحث برئيس (لمتصرفيّة) لبنان من دون مشاركة لبنان وبمعزل عنه، ومن دون أن يكون الى طاولة المؤتمر أي ممثّل رسمي أو سياسي. ويعقد هذا الاجتماع في اسطنبول ـ بلاد الأناضول، حيث حضر التاريخ وحضرت معه محطة طويلة من زمن الاحتلال، والاستعمار، والمتصرّفيتين، وجبل لبنان الذي كان، والذي ربما يحنّ اليه بعض قادة الميليشيات اليوم.

ولعل الصورة الأكثر إيلاماً ان «الدول السبع» لم تجتمع لتقرر ما هي مصلحة لبنان وكيف يمكن توفيرها وحمايتها بقدر ما اجتمعت لتقررّ حدود مصالح كلّ منها في هذا اللبنان، وكيف يمكن تأمينها وحمايتها، وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام لعبة الامم المتحدة على الساحة المحليّة، ومن هي الدول صاحبة الحظوة لتستأثر بالوضع اللبناني، وتشكّل رسميّا وعمليّا دور الرعاية الفعليّة له كما كان شأن «الدول السبع» في عهد المتصرفيّة؟!

لقد قالت رايس كلمتها في اسطنبول وغادرت، وبقي على اللبنانيين تلقي النتائج!

مصادر
السفير (لبنان)