تمضي اليوم قرابة شهرين على الغارة التي شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على ما كانت أميركا وإسرائيل تعتقدان أنه مجمع نووي سوري جديد مقام على ضفاف نهر الفرات. وعلى رغم ذلك، فإن الموجات الصادمة التي كان ينبغي أن تتردد نتيجة لهذه الغارة المباغتة، التي كانت بمثابة عملية عسكرية خطيرة من عمليات الاستباق، والتي قيل إنها كشفت في الآن ذاته عن وجود برنامج نووي سوري، لم تسجل كما كان متوقعاً لها، لأن الأطراف المهتمة بالعملية وهي إسرائيل وسوريا والولايات المتحدة قررت فرض غطاء من الكتمان الكثيف عليها.

في الوقت الراهن يناقش المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون في هدوء ما إذا كان الوقت قد حان للإعلان عن تفاصيل تلك العملية، ومن ثم السماح للموجات الصادمة بالانتشار عبر الشرق الأوسط وفيما وراءه، أم أنه لم يحن بعد.

ربما يرجع السبب في هذا التوتر إلى أن هناك مخاطر قد تترتب على الإقدام على نشر تفاصيل العملية. وهذه المخاطر لا تقتصر فقط على توتير العلاقات مع سوريا -التي آثرت حتى الآن عدم الرد على العملية- وإنما قد تمتد إلى عدد من الموضوعات الأخرى منها المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، ونزاهة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقوة الضغط الدولية على النظام السوري، والصفقة النووية الهشة مع كوريا الشمالية التي يعتقد أنها قد ساعدت سوريا في بناء المنشأة السرية التي قُصفت في الغارة.

لا يزال أولمرت وباراك قلقين للغاية من احتمال إقدام سوريا على رد عسكري، بدليل أنهما قررا نقل مناورات عسكرية إسرائيلية وشيكة بعيداً عن الجولان.

بالنسبة لإسرائيل يمكن القول إن سبب القرار الذي اتخذته حكومة إيهود أولمرت بفرض ستار من الكتمان على أنباء الغارة التي تمت في سبتمبر، والرقابة العسكرية التي مارستها على صحافتها المعروفة بحريتها المفرطة، كان واضحاً للغاية وهو أن أولمرت كان يعرف أن التشدق بأنباء تلك الغارة كان سيؤدي إلى إدانة دولية للغارة الإسرائيلية، كما كان خليقاً بدفع الرئيس السوري بشار الأسد إلى شن هجوم على هضبة الجولان، أو ربما ضرب تل أبيب ذاتها بالصواريخ.يضاف إلى ذلك أن القائد الذي أشرف على تلك العملية هو وزير الدفاع الحالي "إيهود باراك" وهو معروف باقتناعه بأن أفضل شيء بالنسبة للعمليات العسكرية الخاصة هو ألا يتم الإعلان عنها.

وعلى رغم مرور شهرين على تلك الغارة فإن تلك الحسابات لم تتغير كثيراً، حيث لا يزال أولمرت وباراك قلقين للغاية من احتمال إقدام سوريا على رد عسكري، بدليل أنهما قررا نقل مناورات عسكرية إسرائيلية وشيكة بعيداً عن هضبة الجولان. بالإضافة إلى ذلك أدلى أولمرت وغيره من كبار المسؤولين الإسرائيليين بتلميحات عن الدخول في مفاوضات سياسية مع دمشق لأنهم -وخصوصاً أولمرت- يعرفون أن الكشف عن كافة تفاصيل الغارة، سيؤدي إلى تدمير فرص نجاح مؤتمر السلام المقرر عقدة في "أنابوليس" والذي تأمل وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" أن يتم عقده هذا الشهر. كما يعلمون جيداً أن الدول العربية التي تزمع حضور ذلك المؤتمر ستلغي مشاركتها كرد فعل على ما حدث، الذي كانوا قد اختاروا متعمدين أن يتجاهلوه، حتى الآن.

أما خارج تل أبيب وأروقة وزارة الخارجية الأميركية فنجد أن هناك في الوقت الراهن ضغطاً متزايداً من أجل نشر تقرير رسمي عن الغارة، أو عن المعلومات الاستخبارية التي دفعت إسرائيل للقيام بها. فهناك مثلاً الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومديرها محمد البرادعي، اللذان يريدان من دون شك إجراء تحقيق رسمي بشأن الموقع النووي المزعوم. ويشار أيضاً إلى أن خبراء الوكالة قد فحصوا مؤخراً الصور الجوية الملتقطة لذلك الموقع، كما طالبوا الولايات المتحدة بتقديم معلومات رسمية عن الحادث، ولكن واشنطن رفضت حتى الآن التعاون مع البرادعي الذي يكاد يكون قد وقف علناً إلى جانب إيران في محاولتها التملص من الأوامر الصادرة من الأمم المتحدة بتجميد برنامجها الخاص بتخصيب اليورانيوم. ومن المؤكد أيضاً أن البرادعي الذي كان قد سبق له أن كذب الادعاءات الأميركية بخصوص إعادة تنشيط البرنامج النووي العراقي في بدايات عام 2003، سيكون حريصاً على البحث عن أي نوع من الالتباس أو التضارب في الأدلة التي يمكن أن تقدمها الولايات المتحدة وإسرائيل عن أي برنامج نووي سوري مزعوم. وإذا ما أثار البرادعي شكوكاً من قبيل أن المشروع الذي كانت سوريا تنوي إنشاءه لم يكن مصمماً لإنتاج البلوتونيوم فإن ذلك سيدمر سمعة كل من أولمرت وبوش.

هناك طرف آخر ستكون مقاومته أكثر صعوبة من مقاومة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويتمثل في نائبين "جمهوريين" يطالبان بإحاطة جميع أعضاء الكونجرس علماً بتفاصيل ذلك الحادث، على أن يتم ذلك في أقرب وقت ممكن، وهما "بيتر هويكسترا" و"إيلينا روس ليهتينين" اللذان طالبا بذلك في مقالة لهما نشرت مؤخراً في صحيفة "وول ستريت جورنال". هذا علماً بأن هذين النائبين بالذات قد أحيطا علماً بخفايا الغارة بسبب وضعهما كعضوي أقلية في لجنتي الاستخبارات والشؤون الخارجية بالكونجرس. وعلى ما يبدو أن ما سمعاه قد أقنعهما بأن التعاون بين سوريا وكوريا الشمالية أمر يحتاج إلى الكشف عنه، وذلك قبل شروع الولايات المتحدة في المفاوضات الرامية لإنهاء البرنامج النووي لبيونج يانج.

يشار إلى أن "كريستوفر هيل" مساعد كوندوليزا رايس لشؤون كوريا الشمالية، قد أخبر الكونجرس الشهر الماضي بأنه قد طُلب من "بيونج يانج" الكشف عن أي تعاون بينها وبين وسوريا كجزء من التقرير الكامل التي وعدت بتقديمه بشأن برنامج الأسلحة الخاص بها.

وإذا قدمت كوريا الشمالية إجابة عن السؤال المتعلق بالتعاون بينها وبين سوريا فإن الأمر قد ينتهي بها إلى الكشف عن حقيقة تعاونها مع سوريا بالتفصيل. أما إذا ما اختارت طريق الكذب، فإن الضغط الذي سيمارس على إدارة بوش من أجل الكشف عن تفاصيل الغارة الإسرائيلية قد يصبح ضغطاً قوياً جداً ولا قبل للإدارة بمقاومته.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)