نتفق جميعاً أن عصر الاتصالات والسرعة والإنترنت والحاسوب والخليوي قد سهّل لنا كثيراً من القضايا وفتح أمامنا أبواباً واسعة لزيادة المعرفة والاطلاع والتعلم والرفاهية والراحة.. ولكننا في الوقت ذاته نتفق جميعاً ـ ربما ـ أن هذا العصر قد سرق منا كثيراً من المظاهر والحالات التي كنا نعيشها قبله، والتي نفتقدها اليوم ونحنّ إليها كجلسات المساء وحميمية اللقاءات وتبادل الأحاديث والحوارات، والمشي طويلاً في شوارع كانت أكثر هدوءاً وأكثر دفئاً وكنا نحن أكثر التصاقاً بها وبكثير من المظاهر الأخرى..

أهم ما نفتقده في هذا العصر القلم ورائحة الحبر والورق والكتاب كوسيلة معرفية أساسية.. كنا نجد متعة حقيقية في تبادل الكتب، وفي قراءة الصحف والمجلات، ولنعترف أن البعض منا ما زال مواظباً على أن يعيش هذا الطقس في محاولة تبدو يائسة لإحيائه، نعم.. الطقس لأن القراءة في الكتاب كانت طقساً جميلاً وحقيقياً، ولكن هذا البعض يعيشه اليوم تحت ضغط شرط الزمن والسرعة، وتحت ضغط زحف ومحاصرة الإنترنت والكمبيوتر الأكثر سرعة وفاعلية والذي يفتح آلاف الكتب.. ولكن الخالية من أية رائحة!!.

بدل أن نخط أفكارنا على ورقة ونحتضن بين أصابعنا القلم في علاقة كنا نظنها أزلية ولم نكن نتوقع يوماً أنها ستهتز أو تنفصم عراها، أصبح الكيبورد يفعل ذلك، وبسرعة قياسية وبحركات أوتوماتيكية.. ولكنها تخلو من أية مشاعر أو حميمية!!.

كان للرسائل والملاحظات والمدونات الشخصية معنى ونكهة وطعم تختلف عما هي عليه اليوم، حيث أصبحت خاوية، يباس، بلا لون أو طعم أو رائحة!!.

كنا ننتظر رسالة عبر البريد العادي أو حتى السريع، ولكننا اليوم نفتقد فرحنا في استلام تلك الرسالة أو قصاصة الورق.. اليوم صرنا ندرك أكثر ونفتقد أكثر لمعنى استلام رسالة من شخص ما مخطوطة بيده التي لامست تلك الورقة وطوتها بعناية وربما تركت عليها شيئاً من رائحة المرسل، ثم وضعتها في المظروف وأرسلتها، وهي في حالة ترقب وانتظار لذيذين لخبر استلامها.

صحيح أن انتظاراتنا كانت أطول بكثير، وصحيح أن رسالة عبر البريد الإلكتروني تختصر الوقت والجهد والمال، ولكن من قال إن الانتظار في حد ذاته لم يكن متعة حقيقية؟!..

فضلاً عن هذا كله وغيره مما نفتقده اليوم، فإن أكثر أداة معرفية دفعت ثمن عصر السرعة والاتصالات كان الكتاب الذي استعضنا عنه في كثير من الحالات بالإنترنت..

كان التنقيب والبحث بين بطون الكتب عن فكرة ما أو وثيقة أو معلومة يحملنا إلى عوالم من المتعة والتشويق والانتظار لم نعد نعيشها اليوم لأن الإنترنت يفي بالغرض.. ولا اعتراض.. فنحن نعرف أننا لا نستطيع أن نكون كائنات غريبة غير قادرة على الانسجام في عصر السرعة والاتصالات.

الدول المتقدمة سبقتنا إلى الولوج في عصر السرعة والاتصالات والإنترنت، ولكن علاقتهم بالكتاب لم تتأثر ـ على ما أعتقد ـ كما يحصل لدينا.. فما هو السر؟.. الجواب على ذلك يكمن في أن تلك المجتمعات وقبل أن تلج إلى ذلك العالم كانت قد أسست علاقة وطيدة مع الكتاب وكرّستها على مدى سنوات طويلة، وبالتالي تمكنت من أن تؤسس لما يمكن تسميته "المجتمع القارئ".. أما نحن وقبل أن نجذّر العلاقة مع الكتاب، إلا في أوساط معينة وضيقة، داهمنا عصر الاتصالات والإنترنت، ليستأثر بساحة المعرفة والاطلاع، وليقضي على ما تبقى من حميمية تلك العلاقة التي كانت قائمة بين القارئ والكتاب..

العلاقة مع الكتاب، وفي حال تجذّرها، ليست علاقة معرفية وحسب، إنما هي علاقة ترتبط أيضاً بالإحساس والمشاعر والدفء التي لا يمكن أن يؤمنها الإنترنت، لأن في الكتاب رائحة حبر وورق.. ورائحة وذكرى شخص ربما قد أهداك إياه أو أعارك إياه!!.

من المعيب ومن الجحود التنكر لكل ما يقدمه لنا عالم الاتصالات الذي يحتل كل المساحات، ولا نريد، ولا نستطيع التنحي بعيداً عنه والاستغناء عن خدماته.. ولكننا فقط نريد أن نحتفظ بمساحة صغيرة لكتاب..