شاركتُ في نهاية شهر أكتوبر الماضي بـ «مؤتمر المعرفة الأول» في مدينة دبي، والذي نظّمته «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم»، وهو المؤتمر الذي شارك فيه حوالي 300 من الأكاديميين والكتّاب والإعلاميين العرب، إضافةً إلى مسؤولين عن مراكز أبحاث ودراسات واختصاصيين في مجالات علمية وتربوية من مختلف البلاد العربية وبعض دول المهجر.

وكان هذا المؤتمر بمثابة انطلاقة إعلامية وعملية للمؤسسة التي أعلن عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء في دولة الإمارات وحاكم إمارة دبي، في شهر مايو الماضي، من أجل تنمية القدرات المعرفية والعلمية في البلاد العربية والعالم الإسلامي.

وقد اعتبر السيد محمد القرقاوي رئيس مجلس إدارة «مؤسسة محمد بن راشد» أنّ المؤتمر هو «خطوة أولى على مسار تنمية المعرفة وتطوير التعليم، وهو أحد ثلاثة محاور استراتيجية رئيسية للمؤسسة، ثانيها الارتقاء بتطوير الواقع الثقافي، إضافةً إلى المحور الاستراتيجي الثالث المعني بتطوير فرص العمل وخلق الوظائف».

طبعاً أهمّية المؤتمر كانت واضحة من خلال حجم ونوع المشاركين فيه وما يمثلونه فكرياً وعلمياً وتربوياً وإعلامياً، ومن تعدّد الساحات والبلدان التي يمارسون فيها أعمالهم وأبحاثهم.

ورغم أنّ هدف المؤتمر هو التعامل مع المسائل المعرفية والعلمية في العالمين العربي والإسلامي، فإنّ طابعه «العربي» كان غلاباً ممّا أوجد فرصة ثمينة لحوارات عربية/عربية بين فعاليات عربية مهمّة، وممّا يؤكّد أيضاً الدور الريادي المطلوب من العرب في نهضة الأمّة العربية والعالم الإسلامي معاً.

وقد قامت إدارة المؤتمر والعاملون في هيئاته التحضيرية بجهد كبير مشكور من أجل رعاية وتنظيم أعماله وتوفير كل الأجواء المناسبة لإنجاحه، لكن في المحصّلة، فإنّ المؤتمر هو حدث عابر وهو خطوة على طريق طويل تقع مسؤوليته الأولى على عاتق «مؤسسة محمد بن راشد» كإطار إداري وتنفيذي لرؤية مهمّة عبّر عنها سمو الشيخ محمد بن راشد في كلمته الافتتاحية للمؤتمر.

وفي اعتقادي فإنّ أيّ عمل ناجح يستوجب التلازم بين عناصر ثلاثة:

1- فكرة سليمة تسبق العمل وتحدّد أهدافه.

2- قيادة سليمة تحمل الفكرة وتمتلك كفاءة القدرة على تحقيقها.

3- أدوات سليمة لتنفيذ الفكرة وما يرافقها من توجيهات القيادة الراعية لها.

وأعتبر أنّ أهمّ عنصرين في مشروع «دار المعرفة» هما متوفّران الآن من حيث الفكرة والقيادة، وما في تاريخ أعمال هذه القيادة من تحويل مشاريع وأفكار، تبدو للوهلة الأولى وكأنّها من المستحيلات، إلى واقع حي وملموس تعيشه الآن إمارة دبي في مختلف المجالات الاقتصادية والعمرانية والسياحية والإعلامية.

فمشروع «دار المعرفة» الذي يريده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مماثلاً لما كان عليه «بيت الحكمة» في بغداد إبّان العهد العباسي، هو مشروع كبير يحمل آفاقاً فكرية وثقافية وعلمية تحتاجها الآن المنطقة العربية للتعامل مع حال خطير من هبوط مستوى العلم والتعليم والمعرفة في معظم البلاد العربية.

أمّا العنصر الثالث المطلوب لضمان نجاح العمل فسيتوقّف على كيفية بناء الأطر السليمة التي سيولج بها مسؤولية تنفيذ الخطط المرحلية الموصلة إلى الهدف النهائي، وهو هدف مفتوح الآفاق كلّما أُدرك أفق منه بان أفق آخر للإبحار إليه.

إذن، الأدوات والأطر التنفيذية ستكون موضع اختبار لإثبات جدارتها في تنفيذ فكرة هامّة نابعة من قيادة حكيمة جريئة أثبتت مصداقيتها وجدارتها في كل أعمالها وأفكارها السابقة.

ولعلّ أهمّ الخلاصات التي أفرزها «المؤتمر الأول» أنّ مشكلة البلاد العربية والعالم الإسلامي ليست فقط في مواجهة الجهل بمعناه العلمي بل أيضاً في حال الجاهلية التي عادت للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة وعلى مدى قرون من الزمن توقّف فيها الاجتهاد وسادت فيها قيود فكرية وتقاليد وعادات ومفاهيم هي من رواسب عصر الجاهلية ولا ترتبط بقيم ومقاصد دينية.

وهنا تصبح مسؤولية «دار المعرفة» ليست تحسين مستويات التعليم ومراكز البحث العلمي فقط بل أيضاً المساهمة في وضع لبنات لنهضة عربية جديدة ترفع الأمّة من حال الانحطاط والانقسام والتخلّف إلى عصر ينتهج المنهج العلمي في أموره الحياتية ويعتمد العقل في فهم الماضي والحاضر وفي بناء المستقبل.

قد يرى البعض أنّ حال الانحطاط في الأمّة هو من مسؤولية الخارج أو الأجنبي المحتل أو المهيمن، وقد يرى البعض الآخر أنّ تردّي أوضاع الأمّة وانحطاط مستويات العلم والمعرفة فيها هو الذي يسهّل للخارج والأجنبي طريق الهيمنة والتسلّط عليها.

كما جاء في فكر مالك بن نبي عن «القابلية للاستعمار». لكن مهما كانت الأسباب، فإنّ النتيجة واحدة تحتّم تغيير حال الأمّة واستنهاضها من جديد على معايير واضحة تحفظ لها خصوصياتها الحضارية الإسلامية ودورها المنشود في ريادة العالم الإسلامي.

وحبّذا لو كان في المؤتمر الأخير فرصة لأيام إضافية قليلة يختار فيها المشاركون عضوية لجان فرعية محدودة العدد لوضع ورقة حول «المفاهيم» أولاً قبل الدخول في القضايا التفصيلية لموضوعات المؤتمر. فمن المهمّ مثلاً حسم مفاهيم الحضارة والثقافة والمعرفة والفروق بين «التنوّع» وبين «التعدّدية».

ففي إحدى ندوات المؤتمر كان هناك تسليم بوجود «تنوّع ثقافي» في المجتمعات العربية، بينما الصحيح هو وجود ثقافة عربية واحدة تقوم على «التعدّدية». وربّما كان الأصحّ القول: «نوعية الثقافة العربية والتعدّدية في المجتمعات العربية»، إذ إنّ الثقافة العربية منذ بدء الدعوة الإسلامية على الأرض العربية وباللغة العربية ومن خلال روّاد عرب.

أصبحت ثقافة مميّزة نوعياً عن الثقافات الأخرى في البلاد الإسلامية وفي العالم كله. فالثقافة العربية ارتبطت بالمضمون الحضاري الإسلامي الذي حرّرها من اشتراط العرق أو الأصل القبلي أو الإثني، وجعلها ثقافة حاضنة واستيعابية لثقافات محلّية ولشعوب أخرى تنتمي إلى أعراق وأديان مختلفة.

هناك تنوّع ثقافي في العالم الإسلامي وليس في المجتمع العربي، وهناك تنوّع ثقافي دائماً تحت مظلّة أيّة حضارة. فالحضارات تقوم على مجموعة من الثقافات المتنوعة ويكون فيها ثقافة رائدة كما هو حال الثقافة الأميركية الآن في الحضارة الغربية، وكما كان حال الثقافة العربية في مرحلة نشر الحضارة الإسلامية.

فالأمّة الأميركية تقوم الآن على مجتمع تعدّدي من الأعراق والأديان والأصول الإثنية لكن في ظلّ ثقافة أميركية واحدة جامعة. أمّا البلاد العربية، والتي تملك أصلاً كل مقوّمات الأمّة الواحدة: (اللغة المشتركة - التاريخ المشترك - الأرض المشتركة)، فإنّها تعاني من حال انقسام سياسي وصراعات داخلية ومن أعطاب في أشكال الحكم أو انعدام للمساواة والعدالة، وهي كلها مسائل منفصلة عن قضية الانتماء إلى ثقافة واحدة مشتركة احتضنت مختلف الأقليات على امتداد القرون الماضية.

نقطة أخيرة أودّ الإشارة إليها وهي حول الندوة الأخيرة التي اختتم المؤتمر فيها أعماله، وكانت حول «نزيف الأدمغة»، حيث تحوّلت الندوة في معظمها إلى كلمات عن تجارب بعض المهاجرين العرب، وعن كيفيّة استعادتهم إلى أوطانهم.

وقد أشرت حينها في تعليق سريع إلى أنّ المشكلة ليست في المكان وأين هي «الأدمغة العربية» الآن، بل في دور هذه الكفاءات العربية وفي كيفية رؤيتها لنفسها وهويتها وفيما تفعله أينما كانت لخدمة أوطانها.

ولعلّي أضيف الآن أنّ وجود عقول عربية وإسلامية في أوروبا وأميركا في مطلع القرن العشرين كان له أثر إيجابي على البلاد العربية والعالم الإسلامي، كما حصل في تجربة الشيخ محمد عبده وصحيفة «العروة الوثقى» في باريس، أو في تجربة «الرابطة القلمية» في نيويورك.

لقد اختار مثلاً الدكتور كلوفيس مقصود الإقامة في الولايات المتحدة (وقبله مثلاً الدكتور إدوارد سعيد) ولم يكن المكان مانعاً لهما من التواصل مع المنطقة العربية وأوطانهما الأصلية أو مع قضايا الأمّة عموماً، بل على العكس أتاحت لهما الحياة في الخارج فرصاً أكبر للتأثير والفعالية في المكانين معاً.

حتى في المجالات العلمية، فإنّ المهاجرين العرب قادرون على خدمة أوطانهم بالتواصل معها وبالتطوّع المجاني للعمل بها لفترة من الوقت إذ يملك معظمهم القدرات المالية التي تسمح لهم بذلك وعليهم واجب العطاء لأوطانهم ولأمّتهم وليس الدوران في المنطقة العربية والسؤال عمّن يدفع أكثر كثمن لخبراتهم.

هناك «عقول عربية» مقيمة في المنطقة العربية ولكنّها تخدم غير العرب، وهناك «عقول عربية» مقيمة في الخارج لكنّها في ذروة عطائها للحقوق والقضايا العربية.

فالمشكلة هي في تعريف النفس وتحديد الهُويّة والدور، وهنا الفرق من جديد بين «الجهل» و«الجاهلية»!!

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)