أبلغت تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة خلال زيارتها للمنطقة قبل أيام أن أمن إسرائيل له الأولوية على قيام الدولة الفلسطينية، وكررت بعنف وصلف أن هذا الأمن هو أولوية الأولويات لدى إسرائيل، وذلك رداً على قول رايس أن الإدارة الأميركية ترغب في الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية قبل نهاية الأربعة عشر شهراً الباقية من عمر إدارة الرئيس بوش والذي تكثف الإدارة الجهود للوصول إلى اتفاق مبادئ حوله قبل مؤتمر أو لقاء (أنابوليس) المقبل في الولايات المتحدة بإشراف الرئيس بوش وتلبية لدعوته.

إذا أخذنا ظاهر تصريحات ليفني التي تؤكد على أولوية (أمن إسرائيل) قد نراها من وجهة نظر إسرائيلية مطالب عادية، فطبيعي أن تطلب وزيرة خارجية إسرائيل هذا المطلب وتعطيه الأولوية.

ولكن واقع الأمور ومسيرة المفاوضات وتجارب الفلسطينيين مع هذه المفاوضات تؤكد أن الحديث عن أمن إسرائيل هو نوع من المماطلة والخبث وخلط الأوراق وإعادة الأمور إلى نقطة البداية، لسبب بسيط وهو أن (أمن إسرائيل) اصطلاح غير واضح من جهة وفضفاض المعاني من جهة أخرى، بحيث يعجز منجمو الكرة الأرضية عن تفسيره، وله من المرجعيات النسبية والتفاسير المتعددة ما يجعل التعرف عليه والإمساك به أمراً مستحيلاً.

تعتبر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن المستوطنات في أراضي الضفة الغربية هو أمر ضروري لأمن إسرائيل، وخط دفاع أمني واقتصادي وبشري لها، وإن التخلي عن هذه المستوطنات التي يسكنها مئات آلاف المستوطنين وهم الأشد تطرفاً يهدد أمن إسرائيل سواء منه الأمن العادي أم الأمن الاقتصادي أم الأمن الديموغرافي، وقد أصرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على اختلاف سياساتها (المعتدلة والمتطرفة) على دعم هذه المستوطنات ورعاية قطعان المستوطنين ورفض حتى مجرد البحث في إزالتها.

وأقصى ما صرح به بعض المعتدلين في الحكومات الإسرائيلية هو إمكانية التعويض للفلسطينيين بأرض مماثلة من صحراء النقب الجرداء الميتة بدلاً عن أراضي المستوطنات، ومعلوم أن أراضي المستوطنات هي أراض خصبة وأن طرقها الالتفافية تقطع أوصال الضفة الغربية وتستولي على مساحات كبيرة منها.

ترى السياسة الإسرائيلية ضرورة أن يكون جيشها أقدر من جميع الجيوش العربية وأقوى، وهذا جزء من سياستها الأمنية وبالتالي فمن شروطها على الولايات المتحدة أن يبقى هذا الجيش يمتلك القدرة على هزيمة جيوش العرب مجتمعة في أي حرب مقبلة، وإلا سيكون أمن إسرائيل مهدداً، وبالمناسبة فإنها تعتبر امتلاكها للقنبلة الذرية جزءاً من أمنها وترفض حتى مبدأ البحث بإقامة شرق أوسط خال من السلاح النووي، والأكثر من ذلك فإنها تعتبر وصول أية دولة في المنطقة لصنع القنبلة النووية أو امتلاكها يهدد أمن إسرائيل، وينبغي والحالة هذه أن تبقى إسرائيل الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط المالكة للقنبلة النووية فهذا من مقتضيات (أمن إسرائيل) الذي تتحدث عنه تسيبي ليفني.

ومن أمن إسرائيل أيضاً أن لايعود أحد من الأربعة ملايين لاجئ فلسطيني الذين شتتهم الاحتلال الإسرائيلي في أربعة أنحاء الأرض إلى ممتلكاتهم في إسرائيل، فعودة الفلسطينيين من منظور الساسة الإسرائيليين هي قنبلة موقوتة تهدد (أمن إسرائيل) ولا بد من حسبانه دائماً ضمن هذا الأمن.

وتقع ضمن أمن إسرائيل أيضاً مشكلة توزيع المياه في المنطقة ولا يتحقق أمن إسرائيل حسب النظرية الإسرائيلية إلا بالسيطرة على المياه السطحية والجوفية في الضفة الغربية وفي هضبة الجولان السورية وفي جنوب لبنان، وإن لم تحصل إسرائيل على هذه المياه فلن يتحقق أمنها وسيكون مهدداً، فالأمن المائي هو الأهم في عصرنا، وقد اهتمت به الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل وعند تقسيم المنطقة حسب اتفاقية سايكس ـ بيكو، وحاولت بكل السبل توسيع حدود الانتداب البريطاني على فلسطين ليشمل منابع المياه ومجاريها السطحية في جنوب لبنان وفي منطقة الحدود السورية، وهذا ما أكدته الوثائق البريطانية التي نشرت قبل عدة سنوات.

وتقع مدينة القدس بدورها ضمن أمن إسرائيل، ذلك لأنها الوسيلة الأهم لاستقدام اليهود وتهجيرهم من بلدانهم إلى فلسطين، فما قيمة أرض الميعاد بدون القدس؟ وبالتالي فإن أمن إسرائيل الديموغرافي سيختل إذا لم تضم القدس نهائياً لإسرائيل، وبدون هجرة جديدة سيكون عدد الفلسطينيين في إسرائيل يساوي عدد اليهود خلال نصف قرن، وعلى ذلك لابد من القدس لزيادة أعداد المهاجرين وتعزيز أمن إسرائيل.

أما القضاء على المقاومة ونزع سلاحها بما في ذلك بنادق الصيد وحل تنظيماتها، وتجريد الشعب الفلسطيني ليس فقط من سلاحه وإنما أيضاً من إرادة الرفض والمقاومة، فهو ألف باء أمن إسرائيل ولذلك وضع هذا الأمر في فاتحة خارطة الطريق كي تفاوض إسرائيل شعباً أعزل من سلاحه وإرادته.

وهكذا فإن أمن إسرائيل الذي تقول به وزيرة الخارجية الإسرائيلية يشمل في الواقع مطالب تصلح لعقد إذعان وليس لاتفاقية سلام، فأي اتفاقية هذه التي لا تتعرض للمستوطنات ولا للقنبلة النووية ولا للجيش الأقوى في المنطقة ولا للقدس ولا للمياه لأن هذه جميعها تشكل أمن إسرائيل حسب منطق السياسة الإسرائيلية ومنظومتها، ومع ذلك يقال إن إسرائيل تعمل للسلام وتستمر المفاوضات معها مفترضة حسن نيتها.

إن اصطلاح أمن إسرائيل هو ظاهرياً اصطلاح عادي يمكن أن يقنع أي مستمع أو متلق، ولكن التدقيق في معناه وفي فهم إسرائيل له يؤكد اتساع طيفه ليبتلع الحقوق العربية، وليفرض صلح إذعان، وليحقق المطامع الإسرائيلية تحت شعار التمسك بأمن إسرائيل، ولذلك رفضت إسرائيل فوراً عرض كونداليزا رايس بأن الولايات المتحدة سوف تضمن أمن إسرائيل، لأن المقصود بالأمن حسب السياسة الإسرائيلية جملة من المفاهيم تتجاوز اصطلاح الأمن المتعارف عليه.

ولنتذكر أن أمن إسرائيل كان بالاستيلاء على الأرض من النيل إلى الفرات، ثم تواضعت الاستراتيجية الإسرائيلية فجعلته يشمل فلسطين التاريخية كلها وأضافت إليه هضبة الجولان وضمتها رسمياً إلى إسرائيل، ولأن الظروف غير مواتية طرحت هذه السياسة موضوعة أمن إسرائيل الحالية التي لا يستطيع أحد تحديد أبعادها أو مراميها.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)