تجشم عناء عبور الأطلسي غرباً، ارتحل إلى حيث ديار "الحلم الأمريكي" ولهدف صعب المنال، ربما لم يداعب حتى خيال كريستوفر كولمبس في قبره، وحتى لم تطمح إليه العظام الرميم لأمريغو فوسبوتشي، الذي لم يرحل عن الدنيا إلا بعد أن خلع على قارتي العالم الجديد بعضاً من نسبه وحسبه، ليحمل اسمه من بعد مستعمروها الأوائل وأجيالها اللاحقة حتى قيام الساعة... هدف لم يحظ حتى مُخلص شهير لتلك الديار مثل طوني بلير بشرف الظفر به، لا قبل ولا بعد تقاعده!

وهو، وقد أعلن على رؤوس الأشهاد نفسه عاشقاً مولّها، ومتيماً مدلّها، بهذا الحلم، ومستعد لأن يدفع ما يترتب على هذا العشق من مغارم سياسية وإخلاقية، ولم يترك لأحد فرصة لأن يشكّ في تعلقه وهيامه بمآثر العم سام، وتنطحه لأخذ ما يستتبع من مواقف على المستويات الدولية، استحق بجداره أن يطلق عليه مواطنوه الساخرون أو الغيارى، ولا فرق، "ساركو الأمريكي"!

إذن، فنحن هنا نتحدث عن هذا الرجل الذي قرر منذ أن بدأ مسيرته الصاخبة إلى سدة السلطة، وحتى بلوغها، وما قد يقيّض له من البقاء فيها، أن يشغل دنيا الإعلام ولا يقعدها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وصمم، وهو المقتدر الموهوب في هذا المجال، على أنه إذا لم تأت إليه العدسات أن يستدرجها بمهارة عرف بها أو يعرف كيف يذهب هو إليها... نتحدث عن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، منطلقين من رحلتيه الأخيرتين إلى كلٍ من واشنطن ونجامينا... الأولى لاسترداد، كما قال، قلبها، والثانية لاسترداد ثلة من مواطنيه متهمون بالمتاجرة بالأطفال التشاديين والسودانيين... عن رحلتيه اللتين تبدوان أن لا رابط بينهما، لكنهما عكستا بوضوح صورة فرنسا الساركوزية، وألقيتا ظلالاً ترسم بعضاً من صورة أوروبا الراهن والمستقبل، ويمكننا حتى القول، أنهما تؤشران على بعض من سمات الغرب بأجمعه، ليس في هذه الحقبة الكونية البوشية الآفلة، الراقص على رتمها فحسب، وإنما لما أسست إليه هذه الحقبة حتى بعد رحيل صاحبها، مهما تبدلت الوجوه والمسميات في هذه الحقب، وأسهب المسهبون في تعداد الفوارق والاختلافات فيما بينها...عندما رفع أشرعته جواً، مقتفياً إثر كولومبس وفسبوتشي بحراً، استظل ركبه الميمون ببيارق ما دعاها"قيم حلف الأطلسي"، ومهّد لأوان إلقاء مراسيه على ضفاف دنيا "الحلم الأمريكي" التي كانت نشوى في انتظاره، بالتركيز على مسألتين:

تعهّدٌ... أخذه على عاتقه، يقول: أن "أمريكا تستطيع أن تعتمد على فرنسا في المعركة على الإرهاب"... واعتذار... كان قد سبق، ومن ثم يعيد اليوم بهذه المناسبة تأكيده، عن خطيئة خذلان فرنسا الشيراكية للولايات المتحدة الأمريكية، عندما تخلفت عن الالتحاق بركبها آن غزوها للعراق، وندم على تماديها في حينه، لدرجة معارضتها لهذا الغزو، وجرأتها على مخالفتها لواشنطن بشأنه... قال:

"لم أفهم لما كان علينا أن نختلف مع الولايات المتحدة" حول هذا الغزو؟!

قال هذا، فاستحق شهادة دولية، غير تلك التي خلعها عليه مواطنوه كما أشرنا آنفاً، جاءت هذه المرة من البريطانيين، الذين قالت مراسلة لهيئة الإذاعة البريطانية نيابة عنهم: أنه "طوني بلير الجديد لجورج بوش"!

وعندما حل ما دعته "ليبراسيون" الفرنسية ب"الممثل البارع" في رحاب مسرح العم سام، حيث "ضل" العاشق الفرنسي، وفق تعبيرها، "في الحلم الأمريكي"، وواصل كما قالت "الواشنطن بوست" الأمريكية، "هجومه الساحر" هذا جاز أن تسألت زميلتها "لوموند": ترى "هل حطم ساركوزي الرقم القياسي في حيازته على تصفيق يفوق ما حصل عليه أي ضيف أجنبي في الكونغرس"؟ فجائها الجواب، إذ تولت "النيويورك تايمز" تفسير سر هذا الرقم القياسي الذي حطمه الساحر البارع بحصوله على هذا التصفيق، عندما اعتبرته "مؤشراً على الصفح عن فرنسا بعد معارضتها غزو العراق... علماً بأن الكثيرين (من المصفقين) كانوا يحتقرونها سابقاً"!!!

إذن، ساركوزي ذهب ليسترد قلب أمريكا، وهو في وقت يخسر فيه، ومع الوقت، ويومياً، بعضاً من قلب فرنسا، حيث تتعرض شعبيته في بلده لنزف يجمع المراقبون على ملاحظته... وحيث سألته "ليبراسيون": "كيف تعرب عن حبك عندما يكون الطرف الآخر غير مدرك من هو وإلى إين يمضي؟"... وتستطرد: "أمريكا في فوضى... وبوش نفسه أيضاُ، لأنه لم يعرف بلاده التي أغرقها في حرب كارثية"...

وسواء استرد ساركوزي القلب الأمريكي الذي أضاعته بلاد العم سام أصلاً، قبل العهد البوشي، ويبدو أن لا أمل لها في أن تجده حتى بعده، أو حافظ هذا المسترد على حد أدنى من شعبية فاز بها وامتطاها إلى سدة الرئاسة، فلا هو ولا فرنسا معه ولا الغرب الصامت عموماً إزاء الحكاية الفضيحة، التفت أو سيلتفت إلى أحزان القلب الإفريقي الذي فجع بحكاية خطف الأطفال التشادية، بل تعامل ساركوزي ومعه فرنسا، ومعهما الغرب عموماً، على الوجه التالي:

رغم أنهم خُطفوا... إما عبر الاحتيال عليهم مباشرةً، بأن استدرجوا إلى شرك جنة التبني، أو بالأحرى إلى بازارات البيع فيما وراء البحار، من الحقول ومن وراء ظهور أهاليهم، بإغرائهم بالبسكويت والحلوى، أو بإقناع والديهم بالاستجابة إلى مهمتهم الخيرية المزعومة القاضية بنقلهم من قراهم إلى المدينة القريبة لإدخالهم المدرسة ليتعلموا العربية وقراءة القرآن، كما قال العديد من أولياء أمورهم بعد انكشاف الجريمة!

ورغم أنهم ليسوا أيتاماً كما زعموا، وخطفوا من بلدين، أي تشاد والسودان، تحرمان في قوانينهما التبني، وبواسطة طائرة حطت في مطار ثانوي دون علم البلد الذي حطت فيه، في جريمة أقل ما يقال فيها أنها تتنافى مع معاهدة حقوق الطفل الدولية، زعم قراصنة الأطفال، أنهم إنما جاؤوا بدافعٍ من شهامة ولأجل فعل خير هو "لإنقاذهم من الموت"، وليس لبيعهم لمن يتبني، أو كقطع غيار، أو للمنحرفين جنسياً. وفقما جاء ضمناً في رد فعل الرئيس التشادي الغاضب، إثر إحباط عملية الاختطاف تلك.

...رغم كل ذلك، كان من الثلاثة، الرئيس وبلاده والغرب الساكت عن الحق، إذا تعلق الأمر بالآخر الذي هو ليس غرباً، ما يلي:

الرئيس ساركوزي، انتهز السانحة وضرب عصفورين بحجر واحد، دفع باتجاه تبرئة فرنسا الرسمية، عبر لوم الخاطفين، وكان في هذا اللوم الرئاسي محاولة تغطية على مسؤولية فرنسية رسمية متواطئة لا تغطيها ورقة توتٍ لائمةٍ، فالخارجية الفرنسية قد ثبتت متابعتها للعملية منذ بداياتها، ولم تنف علمها بها. وثم، ماذا عن جوازات السفر التي استصدرت سلفاً لهم؟ وماذا عن الأسر الفرنسية التي أحتشدت في مطار المارن انتظاراً للأطفال الأرخص سعراً الذين تبنتهم هذه الأسر عبر الانترنت؟ وكلها وقائع لا تبرأ السلطات الفرنسية، ويزيد من ذلك، أنه حتى وزارة الدفاع أسهمت في الجريمة عبر إعارة قوتها المرابطة في انجامينا طائراتها لعصابة "أرش دو زويه"، الخاطفة للأطفال، ليتسنى لها التنقل بين العاصمة التشادية وبلد ابيشيه مسرح الحدث المشين.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، حاول الرئيس الفرنسي الظهور بمظهر المنقذ للفرنسيين والأسبان والبلجيكيين، أو هؤلاء البيض البسطاء اللذين خطفوا بحسن نية أطفال قبيلتي المساليت والزغاوة الضاربة على طرفي الحدود التشادية السودانية، أو البيض الذين ذهبوا ضحية شهامتهم، ليضيف إلى مأثرته السابقة، المتعلقة بالإفراج عن الممرضات البلغاريات، مأثرة جديدة... ساركوزي ركب موجة شعبية فرنسية رافضة الاعتراف بالجريمة، أو يستهولها إدانة المجرمين، أدت إلى تصويرهم بضحايا حسن نواياهم! كانت ردّة الفعل السائدة فرنسياً هي وصفهم بالسذّج المغامرين وليس المجرمين، أو آخذة عليهم أنهم من عديمي الخبرة في "إنقاذ الأطفال"... لقد جرى وصفهم ب"عصبة من المخبولين"، اللذين إن استحقوا اللوم فلا يستحقون السجن... وكانت محاولة عنصرية مستميته للربط بين فعلتهم ومزاعم إنقاذ دارفور!!!

بل حتى أن منظمة "مراسلين بلا حدود" انتصرت لزملائها المتورطين في العملية، عبر تبرير مشاركتهم فيها، بأنها محاولة لتغطية عملية سرقة الأطفال ليتسنى لهم فضحها فيما بعد!

ساركوزي، حط بطائرته الرئاسية في نجامينا، تصرف، كما هو المرجح، وكإنما التشاد لا زالت مستعمرة فرنسية ولم تستقل، على الأقل نظرياً، منذ عام 1960، ذكّر على الأغلب مستقبليه من الرسميّبن التشاديين بأن القوة الفرنسية المتواجدة في عاصمتهم هي من أنقذ النظام القائم من محاولة إسقاطه من قبل المعارضة قبل ما ينوف عن العام فقط... عاد ومعه ثلاثة صحافيين وأربع مضيفات إسبانيات... ومن تبقى فيما بعد، لحق منهم ثلاثة إسبانيّات والبلجيكي الوحيد، برفقة كاتب الدولة في الخارجية الإسبانيّة... بقي فقط من لا يمكن تبرأتهم بسهولة... لكن قيل أن الإفراج عنهم بات وشيكاً، وهم المهددون بأحكام قضائية تتعلق بتهم "خطف قاصرين"، و"الاحتيال"، و"التواطؤ"، التي قد تودي بمن يدان إلى عقوبة السجن من 5 إلى 25 عاماً... إفراج حجته إنه إنما هو برسم محاكمتهم في بلادهم، ويجيء وفق اتفاقات قيل أنها تسمح بذلك هي معقودة بين البلدين!

...والأهم عاد ساركوزي من رحلته الإفريقية، وقد اطمأن إلى أن تشاد لن تعيد النظر في موافقتها على نشر القوة الأوروبية، التي هي مطلب فرنسا في الأساس، على الحدود مع دارفور السودانية... دارفور، تلك المطلوب إنقاذ ثرواتها الباطنية، أو سرقتها إنسانياً على طريقة إنقاذ أطفال المساليت والزغاوة!

...إن استردّ ساركوزي قلب أمركيا، وحافظ على ما تبقى له في قلب فرنسا، هذا الذي سهّل له فرصة الوصول إلى الاليزيه، أم لم يسترد ولم يحافظ لا على هذا ولا ذاك، فهو في كل الأحوال لم يأبه لقلب إفريقيا المصدوم المكلوم... لدرجة أنه إلى جانب استحقاقه لقب ساركو الأمريكي، قد غدا يستحق بجدارة، وكمكافأة له على مآثرة محاولته إنقاذ فاعلي الخير من عصابة "ارش دو زويه"، لقب "ارش دو ساركوزي" الإفريقي"!

...ساركوزي لا يمثل ساركوزي الفرنسي فحسب، وإنما هو يجسد نطرة الغرب بأكمله للآخر... ماذا لو أن ال103 طفل تشادي وسوداني كانوا طفلاً فرنسياً أو إسبانياً واحداً... تصوروا ما هو موقف هذا الغرب؟!

ربما لهذا التجسيد الساركوزي حطّم ساحر الأمريكيين الرقم القياسي في حصوله على تصفيق لم يسبق أن حصل عليه ضيف أجنبي في الكونغرس!