اشتعلت البؤرة الفلسطينية في يوم 29 أيلول 2000 في انتفاضة الأقصى مع وصول عقد كامل من مسار «التسوية» إلى الطريق المسدود قبل شهرين من ذلك في مؤتمر كامب ديفيد بين عرفات وباراك وكلينتون، فيما انفجرت البؤرة العراقية بعد سقوط بغداد بيد واشنطن في 9 نيسان 2003. ثمّ انفجرت البؤرة اللبنانية مع القرار 1559 في 2 أيلول 2004 الذي أتى ليحوّل لبنان إلى ساحة لتصفية حسابات واشنطن مع دمشق على خلفية تناقض الأخيرة معها بشأن الملف العراقي وما تولّد عن ذلك من انفجار البنية اللبنانية الداخلية وتوزّعها ضمن فلك طهران التي دخلت منذ استئناف برنامج التخصيب النووي الإيراني في شهر آب 2005 في مواجهة مفتوحة مع واشنطن على مساحة المنطقة الممتدة من أفغانستان حتى شرق المتوسط.

كان انفجار الانتفاضة الفلسطينية ناتجاً عن قرار ذاتي فلسطيني ظنَّ أن بإمكانه تعديل موازين القوى لإجبار الإسرائيلي على تنازلات أكبر من التي قُدِّمت في كامب ديفيد، ليصطدم الفلسطيني بعد ذلك باتجاه إسرائيلي عام أصعد شارون إلى السلطة بعد أشهر من أجل طَيّ صفحات رابين وبيريز ولإيجاد حقائق جديدة على الأرض بعيداً من التسوية، وهو ما تلاقى مع اتجاه أميركي جديد تبلور إثر أحداث 11 أيلول أراد «إعادة صياغة المنطقة» عبر البوّابة العراقية بدلاً من التفكير القديم لبوش الأب ثمّ كلينتون الذي رأى في «التسوية» منذ مؤتمر مدريد، مدخلاً لتحقيق ترتيبات أمنية ـــــ اقتصادية ـــــ سياسية (وربما ثقافية) تكون أرضية «ملائمة» للمصالح الأميركية في المنطقة عبر النظم والأوضاع القائمة.

كان هذا مدخلاً إلى الاشتعال العراقي الذي انفجرت مكوّناته بعد إطاحة الديكتاتور، الذي بدوره لم يكن أكثر من لاصق إداري عنيف لتلك المكوّنات في وحدة صورية. بينما رأينا كيف حاولت واشنطن حلحلة تعثّراتها في بلاد الرافدين عبر الضغط على دمشق من خلال بلاد الأرز، ما أدّى إلى الانفجار اللبناني، فيما كان التوافق الأميركي ـــــ السوري، كما ظهر في عام 1976 أو في عامي 1989 و1990، مدخلاً إلى مراحل من السلام اللبناني بعد حرائق سابقة لتلك التواريخ.

كان انفتاح البؤر المشتعلة على انقسامات بنيوية داخلية، في الحيّز الجغرافي المعني، مجالاً للقوى المتصارعة في المنطقة من أجل الإمساك بأوراق في ذلك الحيّز من أجل استخدامها في الصراع القائم في المنطقة، الذي تبلورت الملامح الكبرى لاصطفافاته عبر لوحة وقف فيها «الدولي»، ممثّلاً في الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب الأوروبي وخاصة بعد القرار 1559، ضدّ الإقليمي الذي كان ممثلاً أولاً في دمشق قبل أن يتوسّع نطاقه بعد انفضاض التلاقيات الإيرانية ـــــ الأميركية ضدّ عراق صدّام حسين منذ صيف 2005، فيما تلاقت قوى إقليمية مع «الدولي» وخاصة عبر اللوحة التي تبلورت بعد حرب 12 تموز ونتائجها، عندما وقفت السعودية ومصر ودول الخليج (ما عدا قطر) في اصطفافات واشنطن ضدّ محور دمشق ـــــ طهران.

ظهر ذلك أوّلاً في العراق، لمّا تحوّلت دمشق إلى لاعب مهم هناك، ثم طهران التي ربما فازت بالجائزة الكبرى في بلاد الرافدين عبر النتائج الموضوعية لقلب الأميركيّين لمشهد عراق الـ1921، وهو ما ظهرت مفاعيله بوضوح كبير أوّلاً في مرحلة التوافق الأميركي ــــ الإيراني خلال السنتين الأوليين للاحتلال، ثمّ بعد اتجاه طهران للصدام مع واشنطن منذ آب 2005 مع استئناف برنامج التخصيب النووي الإيراني. وهو ما كان ممكناً لولا المكاسب الإيرانية المتحقّقة عبر نتائج الغزوين الأميركيَّين لأفغانستان والعراق، حيث امتلكت طهران الديناميات لمحاولة فرض دورها الإقليمي الإيراني الرئيسي في المنطقة على القطب الواحد في لحظة ضعف وتعثّر هذا الأخير في بلاد الرافدين وأرض الأفغان. ثمّ بان هذا في لبنان لمّا تشظّى في اصطفافين قبيل الانسحاب السوري، عبر يومي 8 و14 آذار 2005، لتظلّ مفاعيل هذا التشظّي قائمة خلال التاريخ اللاحق حتى أيامنا هذه، حيث تداخل المحلّي اللبناني، عند المعسكرين، مع عملية التصارع القائمة بين «الدولي» و«الإقليمي» في الشرق الأوسط، ليصبح لبنان منذ ذلك الحين ساحة رئيسية لمجابهاتهما، بعدما تداخلت انقساماته الداخلية بتصارع المعسكرين. ما حصل في فلسطين لاحقاً بعدما تحوّلت إلى حكم الرأسين منذ انتخابات كانون الثاني 2006 حتى انفصال غزّة عن الضفة في يوم 14حزيران 2007، لا يمكن عزله عن صراعات الحيز الجغرافي الممتدّ بين كابول وشرق المتوسط، وخاصة بعد اختلال اللوحة الإقليمية لمصلحة «الإقليمي» في وجه «الدولي» عبر نتائج حرب تموز واستمرار التعثّر الأميركي في العراق الذي قارب حدود الفشل.

ظهر التداخل بين البؤر الثلاث، أوّلاً من خلال تفجّر البؤرة اللبنانية التي، على رغم كل الصواعق الداخلية، ما كان من الممكن تفجّرها لولا محاولة واشنطن تدفيع دمشق ثمن سياستها العراقية في بيروت. ثم بان أكثر في حرب تموز لمّا حاولت واشنطن، من خلال مسار الحرب التي وصفتها الوزيرة رايس بأنها «آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد»، تعديل اللوحة الشرق أوسطية المختلّة لغير مصلحتها عبر تلك «القابلة القانونية الجديدة» بعكس ما حاولته واشنطن لمّا تولّت الأمور بنفسها عبر غزو العراق واحتلاله. ولمّا بانت نتائج تلك الحرب على غير ذلك، ازداد الاختلال في الموازين الإقليمية رجحاناً لمصلحة «الإقليمي» على حساب «الدولي»، لينعكس ذلك أوّلاً في لبنان من خلال ازدياد ضغط فريق 8 آذار لتعديل الموازين الداخلية القائمة في ضوء نتائج تلك الحرب، ثم في العراق حيث أصبح ظهر الأميركيّين إلى الحائط، وبعد ذلك في فلسطين حيث لم يمنع اتفاق مكّة في شباط الماضي من ترجمة ذلك، بل ساهم فقط في تأجيله عدّة أشهر حتى حصول ما حصل في غزة، حيث كان ما فعلته حركة «حماس» هناك منتصف حزيران الماضي مؤدّياً عملياً، ولا يُعرَف بعد إن كان مقصوداً من قبلها أو لا، إلى تفشيل التفكير الأميركي الجديد الذي ظهر بوضوح خلال النصف الأول من عام 2007، والهادف إلى إنعاش عملية «التسوية» في ظلّ مناخ أرادت من خلاله تبريد شرق المتوسّط في ظلّ مجابهتها الكبرى مع إيران واحتمالات توجيه ضربة أميركية لها، وهو الهدف المحوري من مؤتمر أنابوليس، بعدما ساهم إشعال الحرب خلال 33 يوماً من صيف 2006 في اختلال الموازين أكثر لغير مصلحة واشنطن في المنطقة. وقد أدّت عملية غزّة إلى تقوية «الإقليمي» أكثر في مقابل «الدولي»، وإلى إضعاف صفّ «الرياض ــــ القاهرة» ودول الخليج التي كان يُراد حشدها في اصطفافات دولية في مواجهة تلك الإقليمية.