خمس طائرات مدججة بالمستشارين المترجمين والاطباء والممرضات والأقارب الشبان وبعض من زوجات الملك عبد الله الثلاثين، هبطت في نهاية الشهر الماضي في مطار هيثرو في بريطانيا. الانكليز استضافوا العائلة المالكة السعودية في القصر الملكي في بكينغهام، كما يليق بها. باقي أبناء العائلة احتلوا الفنادق اللندنية الفاخرة. والادارات قررت فتح الأبواب لساعات تتجاوز الساعات المعتادة، فعلي أية حال ليس في كل يوم تأتي قبيلة كاملة في حملة مشتريات سنوية.

الملك في المدينة، وبريطانيا متأهبة لاستقباله. لم تصدر أية كلمة بالطبع حول الصفقة المريبة المتمثلة ببيع طائرات قتالية للسعودية، والتي في اطارها ومن اجل الفوز بالصفقة مرت حوالي 33 مليون دولار عبر القناة الخلفية من منتجة الطائرات بي.اي. إي سيستمز البريطانية الي أيد سعودية. اصوات المظاهرات في الشوارع ضد الفساد في السعودية لم تنفذ عبر جدران القصر الملكي المستضيف. ايضا قرار المحكمة البريطانية لاعادة البحث في تجميد التحقيق في القضية لم يعكر صفو الأجواء الودية التي سادت الزيارة، التي انتهت كما هو متوقع بالتوقيع علي المزيد من اتفاقات بيع الطائرات للسعودية. بطبيعة الحال ساعدت حقيقة اقتراب موعد قمة أنابوليس في ذلك ايضا حيث أن رعاية السعودية هامة جدا لدرجة أن لا أحد يرغب في اغضاب الملك ابن الاربعة وثمانين عاما الذي تزداد مملكته ثراء كلما ارتفعت اسعار النفط.

مبادر لا يكل ولا يمل

الصحافة العربية التي يسيطر عليها السعوديون في الغالب تتحدث فقط عن أجواء ايجابية وعن مساعي الملك عبد الله لدفع التحركات السلمية في أرجاء الشرق الاوسط، من العراق حتي لبنان، ومن الذرة الايرانية حتي المشكلة الفلسطينية ـ السعودية هي منتجة المبادرات السياسية في المنطقة.

المسألة لا تتعلق فقط بلقاء هو الاول من نوعه بين الملك السعودي والبابا، الذي انعقد هذا الشهر في الفاتيكان، أو أن السعودية قد منحت بندكتوس السادس عشر صك غفران بعد أن أثار عاصفة كبيرة في الدول الاسلامية قبل عام عندما اقتبس وصفا معاديا للاسلام. السعودية قلقة مثلا من امكانية امتلاك ايران للسلاح النووي، وهي كانت قلقة قبل ذلك ايضا عندما استعرضت طهران قدراتها البالستية مع صواريخ شهاب 3. الآن توجد للملك عبد الله مبادرة جديدة ترمي الي انتزاع خطر نشوب حرب جديدة بجانب قصوره.

خلال المقابلات التي يجريها مع وسائل الاعلام يقترح الملك الترتيب التالي: اقامة مركز عالمي لتخصيب اليورانيوم في دولة محايدة، لنفترض انها سويسرا، وكل دولة تحتاج الي اليورانيوم المخصب للاغراض السلمية سيكون بامكانها أن تحصل علي طلبها من هذا المركز الذي سيكون خاضعا للرقابة الدولية من قبل وكالة الطاقة النووية الدولية. هذه الفكرة قريبة من الاقتراح الذي قدمه بوتين لعلي خامنئي، الزعيم الروحي الايراني، إلا أن روسيا لا تعتبر في نظر السعودية دولة محايدة. علي أية حال، ايران لا تُظهر علامات تشير الي أنها مستعدة في الوقت الحالي لشراء الفكرة سواء الروسية أو السعودية.

ليس هناك شك في أمر واحد: السعودية ستبذل قصاري جهدها لمنع الحرب ضد ايران، حتي وإن لم يكن لديها حق فيتو في مجلس الامن، إذ انها تحظي بآذان صاغية في أروقة الحكم في واشنطن وفي كل دولة من الدول الاخري التي تمتلك هذا الحق. لديها ايضا صلات جيدة في ايران بفضل فعالية وزير خارجيتها سعود الفيصل في الحقل السياسي، حيث راكم علاقات ودية مع الزعامة الايرانية وبادر الي عقد اتفاقات تعاون بين المملكة السنية والدولة الشيعية. زيارة محمود احمدي نجاد للسعودية كانت في هذه السنة علامة فارقة في العلاقة بين الدولتين.

كما توجد لايران والسعودية عدة مصالح مشتركة اخري في المنطقة. للسعودية، تماما مثل واشنطن التي تقوم من جهة بمراكمة العقوبات ضد ايران ومن الناحية الاخري تستعد للحوار القادم معها في شؤون العراق ـ الرياض ايضا تقوم بافتعال خطاب مناهض للشيعة في الدولة وتتحدث عن الخطر الايراني من جهة، ومن جهة اخري تواصل علاقاتها التجارية مع ايران. حجم التجارة السنوي بين الدولتين يبلغ مليار دولار (من دون النفط)، وفي هذه السنة التقي وزيرا الخارجية من الدولتين للبحث في توسيع التعاون الاقتصادي. واشنطن تصك أسنانها ازاء ذلك ولكنها لم تتفوه بأي توبيخ علني. عندما تنتهي علاقاتها التجارية المتبادلة مع السعودية عند مبلغ يفوق الـ 41 مليار دولار، فليس من الممكن إفساد العلاقات.

ولكن ليست العلاقات الاقتصادية وحدها هي التي تربط السعودية وايران والولايات المتحدة. ثلاثتها تعارض تقسيم العراق الي ألوية فيدرالية مستقلة. الرياض تعارض حفاظا علي مكانة السنة في العراق، وطهران لانها ترغب في التأثير علي كل العراق من خلال الحكومة الشيعية، أما واشنطن فلا ترغب بالتأكيد في ابراز العراق المنقسم علي نفسه كانجاز سياسي.

العلاقات الجيدة التي نسجت بين السعودية وايران تستغل الآن لانهاء الازمة السياسية في لبنان ايضا. ايران تؤيد موقف حزب الله المطالب بحكومة وحدة وطنية يكون للمعارضة فيها حق الفيتو علي قرارات الحكومة الهامة، أما السعودية فتؤيد موقف الاغلبية التي يقودها سعد الحريري ابن رفيق الحريري الذي كان يمتلك الجنسية السعودية ويعتبر ابنا عزيزا للمملكة التي راكم فيها ثروته الهائلة. ولكن السعودية وايران هما اللتان تقترحان اقتراحات التسوية، وهما اللتان سيتوجب عليهما هز رأسهما عندما تحين لحظة الحسم، وليس مصر أو الجامعة العربية.

صفعة لبوش

عبد الله الذي يتبوأ ايضا منصب رئيس الوزراء وقائد الحرس الملكي ورئيس المجلس القومي للاقتصاد ورئيس المجلس القومي للنفط والمعادن ورئيس مركز الحوار الوطني، ليس شخصا معافي. هو ورث منصبه الرسمي عن شقيقه الملك فهد في عام 2005، ولكنه قاد المملكة كولي للعهد طوال سنوات قبل ذلك، وبعد أن أصيب الملك فهد بجلطة دماغية ولم يعد بمقدوره أن يقود جلسة عمل واحدة متواصلة.

كان هذا الملك عبد الله ولي العهد وليس الملك فهد الذي ابتدع المبادرة السعودية التي تحولت الي مبادرة عربية تعد بالسلام والتطبيع الشامل مع اسرائيل مقابل انسحابها لخطوط حزيران (يونيو) 1967. الوثيقة تحولت منذ طرحها في قمة بيروت 2002 الي وثيقة تحريكية لم تقم فقط بازالة المواقف القديمة القائمة علي عدم الاعتراف باسرائيل والاحجام التام عن التفاوض معها، وانما ايضا حولت عدم الاعتراف باسرائيل من موقف ايديولوجي متصلب الي مسألة قابلة للتغيير عبر صيغة سياسية قابلة للتنفيذ.

هذا كان الموقف الذي نقل السعودية من مكانتها التقليدية كمنضمة لمبادرات الآخرين الي دولة مبادرة. في الواقع تقوم السعودية بترسيخ مكانتها كدولة عربية تتمتع بالزعامة فيما يتعلق بالخطاب السياسي في الشرق الاوسط. صحيح أن محاولة الملك عبد الله الفاشلة للجسر بين فتح وحماس في مؤتمر مكة قد برهنت علي قصور قدرة المملكة ومحدوديتها، ولكن تأييدها لمؤتمر انابوليس ـ رغم انه ليس واضحا بعد ما اذا كانت سترسل اليه ممثلا بارزا ـ ودعمها المالي للسلطة الفلسطينية، كل ذلك يحولها الي الركيزة الأقوي بالنسبة لجورج بوش في ادارة الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني والسياسة الشرق اوسطية عموما.

عندما تكون هذه مكانة السعودية لا يتبقي لبوش إلا أن يصك اسنانه عندما أعلمه عبد الله في اللحظة الاخيرة بأنه لن يشارك في مأدبة العشاء الخاصة التي نظمها علي شرفه في نيسان (ابريل) من هذا العام. بوش لا يكثر من دعوة القادة للمأدبات الملوكية ـ هو يحب أن يقوم بذلك مثلما يحب القيام بالعلاج الجذري ، كتب جيم هوغلاند في واشنطن بوست ـ من هنا كانت الأهمية الكبيرة التي يوليها لمأدبة العشاء مع عبد الله واضحة. بعد ذلك بفترة قصيرة صرح الملك السعودي بأن الولايات المتحدة هي قوة احتلالية غير شرعية في العراق ، وأوضح لبوش بأن سياسته في الشرق الاوسط تصطدم ايضا بخطوط عربية حمراء. الزيارة ذات الأصداء التي يجريها الآن للدول الاوروبية أوضحت لواشنطن مرة اخري أن الصديق السعودي لا يعتبر واشنطن حليفه الوحيد.

النتيجة هي انه في كل ما يتعلق بالسعودية، تميل الولايات المتحدة الي اغماض عينيها. كوندوليزا رايس مثلا لا تواجه مشكلة في تأنيب مصر علانية لمسها بحقوق الانسان. بوش دعا بلا تردد الي اطلاق سراح رئيس حزب الغد المعارض أيمن نور، من السجن المصري. ولكن لا تنبس واشنطن بأية كلمة رئاسية أو رسمية اخري حول وضع حقوق الانسان في السعودية باستثناء التقارير الدورية التي تصدرها وزارة الخارجية حول وضع حقوق الانسان في المملكة.

اليوم ايضا، رغم وعود الملك عبد الله باجراء اصلاح ومراجعة للمناهج التعليمية، يمكنك أن تقرأ في الكتب الدراسية لماذا يتوجب كراهية اليهود والنصاري، وعن صفات اليهود السيئة وعن أن جزءا منهم ـ وإن لم يكونوا كلهم ـ هم عبدة الشيطان. ولكن ما كل هذا مقابل مصافحة ممثل سعودي بارز لرئيس وزراء اسرائيلي.

مصادر
هآرتس (الدولة العبرية)