أخذت سوريا في الثلاثين عاماً الماضية دوراً اقليمياً تجاوز ما كان من أدوار لدى دول أكبر وأغنى، مثل مصر والعراق وايران. ولم يقلل من حجم هذا الدور وأبعاده ما حصل في الأعوام الأربعة الماضية من صدام أميركي مع دمشق، كان أحد نتائجه الإنسحاب العسكري السوري من لبنان يوم 26 نيسان 2005.

ارتبط صعود الدور الإقليمي السوري، مع الدخول إلى لبنان في صيف 1976، بعملية التفكك المجتمعي في بلد مجاور، وما تولد عن ذلك من حاجات دولية واقليمية لضبط فرن مشتعل هدد استقرار المنطقة برمتها. في المقابل، فإن تخلع البنية العراقية واضطرابها، منذ أواخر السبعينات، قد جعل لدمشق أوراقاً عراقية امتدت من حزب السيد جلال طالباني إلى "حزب الدعوة" إضافة الى القوة المرموقة التي كان يملكها التنظيم البعثي العراقي الموالي لسوريا طوال عهدي البكر وصدام حسين، الامر الذي امتد حتى إلى داخل التنظيم البعثي العراقي الحاكم، كما تبين من خلال شخصيات والت أو تلاقت مع الإتجاه البعثي السوري ضد صدام (تنظيم 1979 بقيادة عضوي مجلس قيادة الثورة: عدنان حسين ومحمد العايش).

لم تكن حالة دمشق مع التنظيمات الفلسطينية المنشقة أو المتخاصمة مع ياسر عرفات بعد صيف1983 بعيدة عن الحالتين اللبنانية والعراقية، وهو ما ينطبق على حالة عبد الله أوج ألان وتنظيمه الكردي بعد اعلانه الكفاح المسلح ضد أنقرة في صيف 1984. بالتوازي مع ذلك، فإن صعود دور سوريا الإقليمي، الذي تزامن مع انكفاء القاهرة عن منطقة آسيا العربية بعد اتفاقيات فك الإشتباك مع اسرائيل ثم اتفاقيات "كمب ديفيد" معها، قد كان أيضاً مرتبطاً، ليس فقط بتفكك واضطراب الدول المجاورة وكذلك الحالة الفلسطينية، وإنما أيضاً بتوتر العلاقات الإقليمية بعد صعود الخميني الى السلطة واتجاهه لمصادمة بغداد ودول الخليج العربي، حيث لعبت العاصمة السورية دور الوسيط وأحياناً الإطفائي بين الايرانيين والخليجيين ووضعت نفسها في وضع أصبحت فيه كل الأطراف المعنية بالحرب العراقية - الايرانية أو بالتوترات الايرانية - الخليجية، تخطب ود دمشق.

أضيف إلى كل ذلك، ورقة كان يُظن، مع مبادرة الرئيس السادات للخروج المصري من الصراع العربي-الاسرائيلي، بأنها ورقة ضعف (لا قوة) للسوريين، وهي أن تُترك دمشق وحيدة (أو حتى النهاية) بعد عقد المصريين والأردنيين والفلسطينيين معاهدات – وحتى اللبنانيين كما جرى في 17 أيار 1983- مع اسرائيل، حيث ثبت بعد ذلك، منذ النصف الثاني للتسعينات وخاصة مع تعثر اتفاقات أوسلو وفشلها، بأن دمشق قد أصبحت تملك، ومن خلال جنوب لبنان والجولان وبما لديها من أوراق فلسطينية، مفتاح انهاء الصراع العربي-الاسرائيلي، أو استمراره، وهو ما ازداد مع فشل عملية "التسوية" التي بدأت في مؤتمر مدريد خريف 1991 وانتهت في مؤتمر "كمب ديفيد" في صيف 2000.

بدون ذلك، لا يمكن تفسير استمرار الدور الإقليمي السوري في مرحلة ما بعد الإنسحاب السوري من لبنان في ربيع 2005، إذا لم نقل تعززه عن مرحلة ما قبل التاريخ الأخير، رغم دخول العلاقات الأميركية - السورية في توترات غير مسبوقة منذ عام2003 على خلفية التصادم بينهما حول العراق، وهي- أي هذه العلاقات - التي كانت مترافقة فيها توافقات دمشق وواشنطن حول لبنان، سواء في صيف 1976 ثم في اتفاق الطائف عام 1989، مع بلوغ الدور الاقليمي السوري ذروته في الاعوام 1976 - 1979 و1990 - 1991.

حيث أن استمرار التفكك المجتمعي اللبناني، في مرحلة ما بعد الإنسحاب السوري، قد جعل دمشق قبلة لأطراف لبنانية مرموقة القوة، وبيّن بأن قوة العاصمة السورية في الأوضاع اللبنانية لا تعتمد أساساً على "عنجر"، وهي حقيقة جيوبوليتيكية تعود إلى أيام رئيس الوزراء السوري سعد الله الجابري في الأربعينات، ولوقطعتها مراحل من الضعف السوري بدأت عام 1949 لما تحولت سوريا، في الخمسينات، إلى ملعب للصراع المصري - العراقي. كما أن اضطراب العراق الكبير، بعد الغزو والاحتلال الأميركيين، قد جعل لسوريا أوراقاً عراقية كبرى، ولو أصبحت ممثلة بسنّة العراق بدلاً من الوضع الذي كان في السبعينات والثمانينات والتسعينات مع شيعة العراق وأكراده، فيما لا تزال "الورقة الايرانية" ورقة كبرى في يد العاصمة السورية يمكن أن تلعبها في اتجاهات عدة (القاهرة – الرياض - واشنطن إلخ)، مع بقاء سوريا محتفظة بتأثيرات هي في حالة تنامٍ في الساحة الفلسطينية، عبر "حماس" و"الجهاد"، ستجعل من الصعب، وبالذات بعد أحداث غزة الأخيرة، تكرار سيناريو "أوسلو" عندما انفرد تنظيم فلسطيني واحد بعملية التسوية مع اسرائيل.

وعملياً، فإن ذلك قاد، وبالذات خلال عامي 2006 و2007، إلى ميلان ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط لمصلحة "الإقليمي" دمشق – طهران - "حماس"- "حزب الله" على حساب "الدولي" ممثلاً بواشنطن التي أتت بجيوشها عام 2003 "لإعادة صياغة المنطقة"، وبالذات بعد تعثر وفشل الاميركيين في العراق وصعود (حماس) في الانتخابات ونتائج حرب 12 تموز 2006 ثم في ضوء النتائج المتوسطة والبعيدة المدى لعملية غزة الأخيرة. ولكن، هناك سؤال يطرح نفسه: هل عوامل القوة السورية في المنطقة تعود كلها إلى عامل جيوبوليتيكية، عندما أصبحت سوريا بيتاً محاطاً بحرائق مشتعلة في البيوت المجاورة في الغرب والشرق والشمال؟

مصادر
النهار (لبنان)