قبل الاحتفال في غزة بالذكرى السنوية الثالثة لرحيل الرئيس الشهيد ياسر عرفات بيومين، سألت مرافق أحد المسؤولين في الحكومة المقالة في غزة عن شقيقه الذي القي به من اعلي سطح إحدى البنايات المرتفعة في مدينة غزة، في فترة الاقتتال الداخلي قبل سيطرة حماس على القطاع بالقوة، فأجاب: شقيقي كان فتحاوياً بالفطرة ولم يكن ملتزم تنظيمياً. المرافق التقيت به مع المسؤول بالصدفة عند احد الأصدقاء، أخبرني أن شقيقه كان فتحاوياً منذ صغره وكان ملتحياً، وتحدثت معه عن تحضيرات حركة فتح وفصائل منظمة التحرير للاحتفال الجماهيري بذكرى عرفات، فقال إن كثيراً من الجماهير سوف تخرج لإحياء الذكرى وربنا يستر.

منذ ساعات الصباح الباكر ليوم الاثنين 12/11/2007، كانت هناك تحضيرات واستعدادات كبيرة للأجهزة الأمنية، والشرطة في الحكومة المقالة وتحولت ساحة المجلس التشريعي في مدينة غزة لثكنة عسكرية انطلقت منها قوات حفظ النظام والتدخل للسيطرة على بعض البنايات، وعلى مداخل ومفترقات الطرق المؤدية لمكان الاحتفال، وتمت السيطرة على أسطح بعض البنايات المرتفعة المحيطة بساحة الكتيبة مكان الاحتفال.

وعند الساعة الثامنة صباحاً بدأت المسيرات الراجلة والمحمولة بالتحرك تنطلق من مختلف أحياء مدينة غزة وباقي المدن في قطاع غزة، ووقفت أرقب تلك المسيرات بالقرب من المجلس التشريعي وأماكن أخرى في المدينة، النساء والأطفال والشبان، وهم يحملون الأعلام الفلسطينية ورايات حركة فتح، وينشدون الأغاني الخاصة بحركة فتح ويرددون الشعارات المؤيدة للحركة، وإن تخللتها بعض الشعارات المناهضة لحركة حماس عندما كانوا يمرون بالقرب من تجمعات رجال الشرطة المنتشرة على مفترقات الطرق، وكان بعض الشبان المكلفين بتوجيه المسيرات يمنعونهم من ترديد تلك الشعارات.

المشهد كان يدل على أن اليوم سيكون وطنياً لكل الفلسطينيين، وسيكون بداية لانطلاقة جديدة في العلاقات الوطنية وسوف تتجسد الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، اختلطت مشاعر الحزن والفرح معاً، واستمر الزحف لمكان الاحتفال، وبالرغم من مقتل مواطن مبكراً إلا أن الأمور سارت بشكل طبيعي، وبدأ الاحتفال بإلقاء الكلمات، ولم يشعر مئات الآلاف ممن حضروا الاحتفال بان هناك قتيلاً، إلا أن بدأ إطلاق النار الكثيف المباشر والعشوائي على المشاركين على المحتفلين من نساء وشيوخ وأطفال ولم يميز من أطلق النار بين كل أولئك الذين اندفعوا هاربين من المكان وتساقطوا على الأرض واختلطت مشاعر الفرح بالخوف والهلع على أنفسهم وعلى أولادهم الذين تفرقوا عن بعضهم بعضاً.

ولم يكتف أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية بإطلاق النار، بل طاردوا المحتفلين في الشوارع المحيطة بالضرب وتوجيه الإهانات والاعتقالات، وكانت النتيجة سبعة قتلى وعشرات المصابين، ولم يميزوا بين طفل وشيخ و امرأة، وكان المشهد مخيفاً ويثير الخوف والحزن والدهشة لهذا القمع القاتل.

في اليوم الذي نظم فيه الاحتفال وقتل فيه سبعة مواطنين، عقدت المحكمة العسكرية التي شكلتها الحكومة المقالة في غزة جلستها الثانية، للنظر في محاكمة أربعة أشخاص من حركة فتح لا تتجاوز أعمارهم سنوات العشرين. المتهمون وجهت لهم تهم وضع عبوة ناسفة في سيارة احد قادة القسام في مدينة رفح الشهر الماضي، وصدرت بحقهم أحكام اعتبرت غير عادلة من نشطاء حقوق الإنسان.

في العام 1996 نفذت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حملة اعتقالات واسعة في صفوف حركة حماس، فيما عرف لاحقا بالتنظيم السري للحركة، الذي اتهم أعضاؤه بقتل أفراد من الشرطة الفلسطينية، وحسب بعض المصادر في حماس فإن الجهاز السري الذي شكله بعض القادة في حينه كان يعمل بعيداً عن الحركة، وأحدث خلافاً في قيادة حماس التي دفعت ثمناً باهظا من خلال اعتقال جميع قيادات الحركة ومطاردة أعضائها، وضرب التنظيم والجهاز العسكري.

وفي العام 1995، قامت مجموعة من الشبان المنتمين لحركة حماس في مدينة رفح بمحاولة خطف سلاح بعض افراد الدفاع المدني، واكتشف أمرهم فوقع اشتباك مسلح معهم قتل على إثره احد افراد الدفاع المدني، وأصيب احد افراد حماس، وتمكنت الأجهزة الأمنية بعد فترة من إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم أمام محكمة عسكرية وحكم على بعضهم بالإعدام، وخفف الحكم لاحقا من قبل الراحل ياسر عرفات إلى الحكم بالسجن المؤبد.

التاريخ يعيد نفسه مرات عدة لدى الفلسطينيين خاصة في حركتي حماس و فتح التي انتقل أعضاؤها وقيادتها من صفوف الثورة والمقاومة الى البدء في التأسيس للدولة، وأخذوا على عاتقهم تنفيذ ما نصت عليه اتفاقية أوسلو، التي وقعتها قيادة فتح مع حكومة إسرائيل، وبالغ بعض هؤلاء القادة في تنفيذ الجانب الأمني من اوسلو، ولم يتركوا مجالاً لفصائل المقاومة الوطنية والاسلامية من تنفيذ عمليات فدائية سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، ونفذوا عمليات اعتقال واسعة طالت جميع الفصائل التي كان يشتبه في بعض أعضائها في التفكير أو التخطيط لذلك.

وخلال عمر السلطة في نصفه الأول كانت الأجهزة الأمنية الفلسطينية تشن حملات اعتقال واسعة ضد أعضاء حماس طالت المئات منهم، وكانت جميع تلك الاعتقالات غير قانونية وتنفذ بطريقة مهينة وتعرض العديد منهم للتعذيب والإهانة، وقضوا سنوات طويلة من دون تقديمهم لمحاكمات عادلة، وتوجهت منظمات حقوق الإنسان للقضاء وحصلت على عشرات القرارات للإفراج عنهم، الا ان السلطة التنفيذية كانت ترفض تنفيذ قرارات المحاكم.

وتحول المناضلون في حركة فتح من مقاومين إلى محققين وسجانين يمارس بعضهم التعذيب بقسوة وشدة، المشهد يتكرر الان في غزة من كانوا معتقلين لدى فتح، أصبحوا الان سجانين ويمارسون التعذيب ويسيئون معاملة المعتقلين من حركة فتح. فعلى إثر انتهاء الاحتفال بذكرى الراحل عرفات واتهام الحكومة المقالة حركة فتح وتحميلها المسؤولية عما جرى شنت أجهزتها الأمنية والشرطة التابعة لها حملة اعتقالات واسعة في صفوف أعضاء فتح من بينهم قادة ورؤساء بلديات سابقون وحاليون، وادعى بعض من أفرج عنهم أنه تعرض للتعذيب والإهانه.

الاحتفال بذكرى رحيل عرفات كان فرصة كبيرة كان يمكن أن يؤسس لبداية جديدة في العلاقات الوطنية وتوحيد الصفوف والخروج من الأزمة التي يمر فيها الفلسطينيون جميعاً، إلا أن طرفي الصراع مستمران في وأد كل شيء وطني جميل يؤسس لبداية وطنية جديدة، ويتم تبادل الاتهامات وتحميل بعضهم بعضا المسؤولية عما جرى ويجري من قتل وانقسام وشرذمة، وتدمير للعلاقات الوطنية.

الحكومة المقالة بدلاً من العمل مع فصائل العمل الوطني في غزة، وتشكيل لجنة تحقيق وطنية لما جرى تطل علينا لتقول إنها ستعمل على إعادة النظر في الحريات الممنوحة في قطاع غزة، منها حرية العمل السياسي والإعلامي، وستتخذ كافة الإجراءات التي تحمي الأمن الداخلي في قطاع غزة. كلام مثير للدهشة والاستغراب من قبل الحكومة المقالة وكأن الحريات تمنح من قبل السلطات والحكومات وتنتزع بالنضال الشعبي والمدني السلمي الذي دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً له.

الجماهير التي شاركت في الاحتفال و تقدر بمئات الآلاف خرجت لتؤكد على أن الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد للفلسطينيين في الدفاع عن مشروعهم الوطني ولتقول أولا: لحركة حماس أنكم مستمرون في ارتكاب الأخطاء والخطايا بحق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وان الحريات العامة لا تمنح من احد، وان تصويب البنادق يجب أن يكون إلى صدور الاحتلال وليس لجموع المحتفلين. ولحركة فتح وللرئيس عباس انه لا سبيل أمام الفلسطينيين إلا البدء في الحوار فوراً والتسامي على الجراح والبدء من جديد من دون تحريض أو استغلال الأوضاع المأسوية للفلسطينيين في قطاع غزة.