كان مشهداً لا يمكن تخيله إلا في تركيا اليوم... في بلد يلوح راهنه للآخر بمفارقاته الخاصة، خصوصية التباس يبدو لهذا الآخر وكأنما هو نزوع اختياري، وصل حد الفرادة، واتسم بالتعقيد، إن لم نقل التناقض... التباس اُتفق على أنه إنما أراده لنفسه، وحافظ عليه منذ قرابة القرن، ليسم من ثمّ تاريخه المعاصر، فلم تسلم منه هويتّه، ولا جانبه توجه الدور الذي ينشده لنفسه في محيطه الجغرافي، و حيث أفقه التاريخي، أو فضاء امتداداته الحضارية.

وقف شمعون بيريز إلى منصة البرلمان التركي، خاطب بالعبرية نواب الشعب المسلم المحتج دائماً على جرائم محتلي فلسطين، ومن خلالهم، وعبر البث على الهواء مباشرة، أسمع هذا الشعب معسول الكلام غير المقنع، وزاد فصدح بأبيات تفيض رقّة و إنسانيةً للشاعر التركي جهيد صدقي تارانجي... صفق له نواب الشعب بأغلبيته إسلامية المنحى وأقلياته الطورانية والأتاتوركية والأثنية... لم يشأ أحد منهم أن يتذكر أن هذا الذي أعطوه شرف الصعود إلى منبرهم، و فرصة التحدث تحت قبة برلمانهم، هو قاتل الأطفال في قانا اللبنانية وأشقائهم الفلسطينيين في مختلف المواقع على امتداد الخارطة الفلسطينية... نسي زعيم حزب الأغلبية في البرلمان، رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، أنه إنما سبق وأن وسم سياسات إسرائيل بالإرهاب... ولم يعترض على استضافة الضيف من بين ممثلي الشعب، وهو غير المرحّب به شعبيّاً، سوى زعيم حزب صغير انسحب مقاطعاً الجلسة. كان، ويستحق منا أن نسجل هذا الموقف له، هو محسن يازجي أغلو، رئيس حزب الوحدة الكبرى اليميني، الذي طالب بيريز، كشرط لاستقباله، بالاعتذار سلفاً "للعالم بأسره عن الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية، وقتل النساء والأطفال في فلسطين ولبنان".

كان محسن يازجي أغلو والشعب التركي في واد وبيريز وأعضاء البرلمان التركي بإسلامييه الحاكمين وطورانييه وأتاتوركييه المعارضين، وأيضاً الإعلام التركي معهم، في واد آخر!

إنها واحدة من ما وصفناها بالمفارقات، أو قل النقائض التركية، تلك التي قلنا أن مردها التباس درج أتراك ما بعد العثمانيين على مقاربته وفلسفته والجدل حوله... هم مسلمون وحماة شداد للعلمانية بصورتها الأتاتوركية الفجّة والمغالية في نفس الوقت. وهم أحفاد الفرسان الفاتحين القادمين من سهول أسيا الوسطى، والمتأوربين المتهالكين منذ قرابة نصف القرن على أعتاب عضوية الاتحاد الأوروبي عزيزة المنال... البلد، الجسر بين الشرق، أو العالم الإسلامي، والغرب، في أيام دأبت الاستباقية وروح الهيمنة الأمريكيّة على تقطيع ما تبقّى من الجسور بينهما... صلة الوصل التي غدت أقرب إلى محاولة التوسّط بين الهيمنة والتبعية، أو دور الوسيط بين من لا توسط بينهما... نقطة التقاطع... الذي يصبو لأن يغدو متعهد حوار حضارات، في زمن يراد فيه أن يتمّ افتعال صراع حضارات!

قد يقول قائل: أن تركيا حزب العدالة والتنمية، بزعامة رجب الطيب أردوغان، تنحو باتجاه تصحيح هذا الدور الملتبس وجلاء هذه الهوية المرتبكة، أو على الأقل، تخفيف حدة ذاك الالتباس، الذي هو مردّ تلك المفارقات والنقائض، أو مصالحة تركيا الراهن والتطلع مع تركيا الجذور والتاريخ. لعل في هذا القول بعضاً من صحة، لكن بيريز نفسه يجيب هؤلاء جازماً وقاطعاً شكهم باليقين، حين يقول:

"السلطة في تركيا تغيرت، لكن العلاقات الثنائية (بين أنقرة وتل أبيب) لم تتغير، وهذا دليل عمقها"... ويطنب في مديح ما يدعى الأنموذج الإسلامي التركي، "حيث يمكن للمسلم أن يؤمن بربه، وأن يعمل على جهاز الكمبيوتر في الوقت ذاته"!!!

ترى لماذا على بيريز أن لا يؤكد على مثل هذه العلاقة، بل وما الذي يدعوه بأن لا يطنب في مديح الأنموذج الأردوغاني؟!

فالدور... بمعنى الجسر بين الشرق والغرب... أوصل الأتراك الأطلسيين إلى متاهات أفغانستان، ومهمة صلة الوصل، أصبحت وجهة سياسية تترجم، مثلاً، في الجمع بين وزيري خارجية إسرائيل وباكستان... مهمة صلة الوصل بين "الدولة اليهودية" التي يطلب راهناً من الفلسطينيين والعرب الاعتراف بيهوديتها بعد أن تحقق اعترافهم بها، وسائر أعدائها المفترضين عرباً ومسلمين... والحرص على التواصل مع عباس وحماس، والأخيرة والاحتلال، أو الاحتلال ومن يقاومه... واستطراداً، الغرب وإيران، وهذه والعرب المتوجّسين من دورها في المنطقة... وصولاً إلى فريقي الصراع على الرئاسة في لبنان معارضةً وموالاةً... أو ليس هذا دوراً هو أقرب إلى السمسرة منه إلى كل ما يحاول الأتراك أن يصفوه به؟!

ولنأخذ آخر الأمثلة الطازجة، المتمثّلة في زيارة بيريز الأخيرة إلى أنقرة، هذه التي غرد خلالها تحت قبة البرلمان بالعبرية منشداً للأتراك شعراً تركياً:

للتغطية على هذه الفعلة المتصلة بمهمة نقطة التقاطع وصلة الوصل التجسيرية العتيدة استضاف الأتراك رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدودة في فلسطين المحتلة، ليشارك بيريز شرف الإطلالة عليهم من تحت قبة البرلمان، وإذ جمعوا الرجلين في منتدى أنقرة، سارع الإعلام لوصف الاجتماع الثلاثي بين غل وبيريز وعباس ب"اللقاء التاريخي"! الذي عزز في نظر هذا الإعلام "مكانة تركيا كبلد تحتاجه جميع الأطراف وكلاعب أساسي في تطورات الشرق الأوسط، يسعى ليكون ضلعاً رابعاً" فيما يصفه ب"مثلث الاعتدال" في المنطقة!

الإعلام التركي انتشى بهذا الإنجاز "الثلاثي" التركي، المتمثل عنده في "القدرة على جمع خصوم أعقد نزاع في العالم"، ملاحظاً باعتداد أنه "لا يمكن تمرير أي مخطط في المنطقة من دون موافقة تركيا ومشاركتها"... تركيا، التي فاخرت صحيفة "راديكال" بأنها تحوّلت إلى معبر "للعابرين إلى السلام"!!!

الأتراك، الذين لم يتخذوا موقفاً حاسماً من عملية تهويد القدس المتسارعة خطواتها، والحصار التجويعي الرهيب لغزة، أتحفونا باستضافة مؤتمر حول القدس في اسطنبول، سوف لا يخرج عن كونه تظاهره تنتهي بتفرّق متظاهريها، وسيكون لها ذات التوظيف التركي للاتفاق الذي وقعه غل وبيريز وعباس في لقائهم الثلاثي "التاريخي"... اتفاق وصفه بيريز بأنه يأتي في إطار "أربح واربح!" إنّه إزماع إنشاء منطقة صناعية مشتركة ٍفي الضفة... هنا نسي الأتراك، أو تناسوا، أن إسرائيل كانت قد دمرت منطقة أخرى مثلها كانوا قد شاركوا في إقامتها في غزة صيف العام الماضي... ولم يكن يهمّهم أن يخفوا دلالة قرار اختيار إقامة هذه الجديدة المزمعة في الضفة لا القطاع، أي ما يعني دعماً غير مباشر لعباس ضد حماس... وهم عندما صفق برلمانهم بإسلامييه وأتاتوركييه لبيريز، حينما سمعوه يقول أن "اجتماع أنابولس" هو "فرصة تاريخية ينبغي أن لا تتحول إلى إخفاق تاريخي"، كانوا يعلمون علم اليقين بشروط إسرائيل لإنجاز مثل هذه الفرصة،وهي كما يكررها الإسرائيليون صباح مساء :

تفكيك "منظمات الإرهاب" في الضفة والقطاع بمعنى استسلام للاحتلال لا مقاومة له من قبل الفلسطينيين، والاعتراف بدولته كدولة يهودية، بمعنى إسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيّين الذي هو جوهر القضية الفلسطينية، أو بمعنى التسليم من أصحاب هذه القضيّة بتصفية قضيتهم العادلة نهائياً... ولا داع هنا لإعادة التذكير بمسألة إصرار الإسرائيليّين على الاحتفاظ بالقدس عاصمة أبدية لهمٍ، وكذا التمسّك ببقاء المستعمرات حيث هي، و السيطرة على مصادر المياه... إلخ، وصولاً إلى واقع لايسمح إلاّ بدويلة الكانتونات المجزئة الفلسطينية غير القابلة للحياة، والتي يتم إيجادها أصلاً، في سياق ما يدعى بحل الدولتين، لهدف واحد عندهم هو تبرير ودعم وتسهيل وتثبيت فكرة "الدولة اليهودية"...

الأتراك، ولا فرق بين اسلاميّيهم وطورانييهم، محكومون بنزعة "صلة الوصل" المستحكمة هذه الأيّام لديهم لدرجة السمسرة... ألم تصف صحيفة "زمان" التركية ما يطلق عليها الأتراك "القمة التاريخية" الثلاثية بأنها "بروفة لأنابولس"!؟

..."زمان" لم تقل لنا أن هذه "البروفة" التي أنطقت بيريز شعراً، لم تكن إلا بإيعاز أمريكي!