"أعظم مصيبة ستتعرض لها الانسانية هي اليوم الذي يختفي فيه كلّ الحالمين" فريدريك نيتشه في ظلّ الظروف المتأزمة المحيطة بشعوب المنطقة يبقى لنا

"أعظم مصيبة ستتعرض لها الانسانية هي اليوم الذي يختفي فيه كلّ الحالمين" فريدريك نيتشه

في ظلّ الظروف المتأزمة المحيطة بشعوب المنطقة يبقى لنا الأمل والحلم، ومن حقّنا أن نحلم على مشارف الاستحقاقات السياسية المصيرية التي يشهدها العالم؛ من باكستان وأزمتها الديموقراطية وحالة الطوارئ التي تعيشها في ظل قلق دوليٍّ حادّ من مصير أسلحتها النووية، مرورًا بإيران وإشكاليّة حقّها أو عدمه بتخصيب اليورانيوم، علاوة على الوضع العراقي المنهار والكردي-التركي المتأزم، ناهيك عن الحرمان الاقتصادي والعنف الذي يعاني منه فلسطينيو غزة والضفة، وصولا الى لبنان والانقسام الحادّ في المواقف السياسية حول الاستحقاق الرئاسي المتعثّر الذي تدخلّت فيه معظم سفارات الأرض و القوى النافذة في العالم إلا الشعب اللبناني الذين إلتجأ معظمه الى العليّ القدير ليجنب نفسه شرّ حرب أهلية.

قد تبدو هذه الأزمات متفرقة غير انها في جوهرها متشابكة، ففي عصر عولمة رأس المال وانتصار نموذج السوق ولو على المستوى النظري، أدَّى ذلك الى تدهور العامل الانساني وتراجع القيم بشكل ملحوظ، كما أدّى الى تراجع إرادة الفرد وقوته، حيث أمست القوة الاقتصادية مطلقة، وتهيمن على قرارات الدول، وتكاد تكون المحرك الأبرز الوحيد للعلاقات الدولية، والشاهد الرئيس أزمة الارتفاع الجنوني لسعر برميل البترول وانهيار الدولار، والتي حاولت قمة أوبك الاخيرة ان تجد لها الحلول، ليس من اجل الاقتصاد وحده، بل من أجل التداعيات السياسية وحتى العسكرية المرتبطة بها وانعكاساتها على السياسية الدولية.

أمام تلك المنعطفات الحادّة يصبح واضحًا أمام شعوب المنطقة، أن الخسارة الكبرى بالنسبة لهم هي فقدان الثقة بالعامل الانساني، فالصراعات السياسية هي في حقيقتها صراعات "إرادوية" حيث يحاول كل طرف الضغط على الآخر للإستسلام بحيث يفقد هذا الآخر إرادته في المقاومة ومواصلة النضال، و معظم الاحداث تدخل في هذا السياق إلا انّ التجلي الحالي الابرز لها هو في مؤتمر الخريف، كما نرى صراع الإرادات هذا على أشده حول الاستحقاق الرئاسي اللبناني خصوصًا مع اقتراب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية خلال هذا الاسبوع في الرابع والعشرين من الشهر الجاري .

إن تراجع العامل الانساني في العمل السياسي والعلاقات يقلب نظام الأشياء إلى فوضى عارمة، وعندما ينقلب النظام الى فوضى، تتحول البنى المؤسسة للحياة و أهدافها، لذلك فالتجارب أثبتت فشل السياسيات الأحادية في الانظمة الشمولية، كما فشلت السياسات التي لا تتجاوب مع الواقع واحتياجاته ومتطلباته ومستوياته بما فيها بعض الأنظمة الديموقراطية والعلمانية، وذلك عندما أهملت المكونات المتكاملة والكاملة للكائن البشري؛ لقد انهارت الماركسية والشيوعية وفشلت فشلا ذريعًا لأنها ربطت تخلّف الأمم بالبنية الاجتماعية والاقتصادية المادية، دون سواها من العوامل الاخرى المكونة للانسان؛ والرأسمالية الجشعة اليوم ستفشل بالتأكيد لأنها شيَّئت الكائن الانساني وحولت الشعوب الى سلعة تُباع وتشترى لصالح الدول الأكثر ثراء في العالم .

لقد فشلت كل هذه الانظمة في صنع جنة الله على أرضه كما وعدت شعوبها دائمًا، لأنها لم تستطع الارتقاء بمستوى الوعي الانساني والمعرفة والارادة عند الشعوب، كما انها لم تتعامل مع أبعاد الكائن الانساني المتكاملة بما فيها النفسية الروحية، بهدف تحقيق أكبر قدرٍ من انسجام الكائن الانساني مع الوجود من خلال الأخلاق والوعي والفضيلة، وفي هذا السياق يقول المفكر ندرة اليازجي " عندما ينقلب النظام الى فوضى، تتحول أسس الحياة من وعي أو معرفة إلى جهل أو لا معرفة، ولما كان واجب الانسان يتمثل في الوعي والفضيلة ... فإن كلّ عملية أو اختبار في نطاق النظام تحقق له ما يريد وكل عملية فوضى تقضي على إنسانيته، لذا كان النظام ضرورة كونيّة لأنه يمثّل الإطار التي تعمل فيه قوى الوعي كلّها "

إن شهدت المنطقة العربية بدون شك، ولادة قيادات فكرية متنورة فعلا قدمت الكثير من النضالات والتضحيات غير أنّ ذلك لم يكن كافيًّا للنهوض، والسبب ربما يعود إلى أن هذا التنوير لم يكن متكاملا ولم يتناول الأبعاد الانسانية كلّها، فغالبا ما نرى أنّه تنويرًا من جهة واحدة ولجهة واحدة فقط، فكرًا أحادي البعد لا يتناول سوى الجانب المادي من حياة الكائن الانساني، و اننا لغاية الآن برغم من التطور الهائل الذي حققناه كبشر على مر العصور، نقوم باسم الحضارة والثقافة والدين بكافّة الاعمال القمعيّة والبربرية والحيوانية ملقين التهم على الآخر، مبتعدين عن حقيقة ان الوجود بكليّته وحدة عضويّة، الأمر الذي حولّنا إلى طوائف متصارعة وذوات متنافرة، تُكرّس الأنوية السياسيّة التي تتشكل من مجموعة توترات نلف انفسنا بها ونعيش في سياجها، كما حول الطاقة الجماهيرية إلى عنف جارف، في ظلّ اختفاء شبه تام للقيم الجمالية والأخلاقية ومفاهيم السلام.

إن السياسة الأدوم نجاحًا، هي تلك التي تعتمد على استراتيجية منسجمة مع ايقاع الكون وتناغمه الطبيعي، وقد يبدو هذا الطرح حلمًا طوباويًّا،غير انه آن لنا أن ندخل الى الفكر السياسي من خلال الفن والجمال والقيم وبشكلٍ معاصر، والمعاصرة هي ان نحيا مستوى اللحظة الآنية لعصرنا ولواقعنا، فهي اللحظة التي تحتوي الماضي بكامله وتمتد لتحتوي المستقبل بكامله انها نقطة وسطية برزخية بين مستويات الواقع كلها وهي نقطة دائمة التطور والتحرك في آن معًا .

أما على مستوى علاقاتنا بالشعوب الأخرى فلا بد لنا من افتراض حجة أخلاقية كاملة مفادها أننا أصحاب قضيّة عادلة، لم ينصت لها ولم تؤخذ بعين الاعتبار يومًا في المجتمع الدولي بشكل كامل، ونحن وسائرشعوب المنطقة،امام تاريخ طويل مشترك من الاضطهاد والمعاناة الانسانية واننا موجودون على مساحة جغرافية لنا فيها مشروعية تاريخية، و يجب ان نحيا فيها كشعوب وطوائف واديان جنب الى جنب بسلام وتكافؤ، مرتقين لمستوى التحديات لا ان نبقى فيها عرضة للتسويات المذلة والعنف المستباح .

فمن حقنا أن نحلم بالجمال ومن حقنا ان نحيا بسلام !!

مصادر
ايلاف