لايختلف اثنان على أن عالم الاتصالات الواسع والتواصل السريع الذي نعيشه في الألفية الثالثة هو أحد أهم ثمار العلم والتقدم التقني الذي يبدو أنه لا ولن يقف عند حدود التعب والعجز، ويبدو من البديهي القول: إن هذه الخطوات السريعة تمضي قُدماً وبشكل حثيث، دون توقف لتكسر أنف المستحيل.

هذا الواقع مهّد الطريق وجعله سهلاً أمام القول الذي يخشاه البعض من أن العالم أصبح "قرية صغيرة"، واستطراداً سيادة وطغيان مفهوم "العولمة" على اعتبار أنه نتيجة حتمية لهذا التطور.

العولمة في معناها وفي جوهرها ليست مفهوماً طارئاً، لأن التاريخ يحدثنا عن "عولمات" كثيرة بالمعنى الثقافي.. الحضارة الفينيقية نشرت ثقافتها ومؤثراتها في حوض المتوسط في القرون الأولى قبل الميلاد. والحضارة الرومانية فعلت الأمر ذاته فيما بعد، والعرب كذلك الأمر فعلوها، بعد الرومان والبيزنطيين، عندما وصلوا إلى الهند والأندلس.. الاختلاف بين الماضي والحاضر يكمن فقط في الأدوات والأساليب.

ولكن هذا لايجب أن يدعونا إلى القول إن العولمة في عصرنا هي القضاء والقدر ونحن المسيّرون أمامها، الفاقدون أية فاعلية أو قدرة على التعامل معها..

العولمة على صعيد المعرفة والاطلاع هي بحر واسع يحتوي كل شيء.. ولما كانت ذلك البحر الواسع الذي يحتوي على الغث والرث والثمين من المؤثرات، فهي ولا شك ليست "مذنبة أو خاطئة"، وليست خطراً داهماً لا يمكن الوقوف في وجهه، إنما المذنب الخاطئ هو ذلك الذي لا يعرف كيف يستفيد من الآفاق الرحبة التي تفتحها "العولمة" أمامه، ولا يعرف كيف يستفيد من عالم الاتصالات كأداة ووسيلة معرفية، تمكنه من ممارسة شيء من الانتقائية فيأخذ كل ما هو بنّاء ومثمر، ويعيد إلى ذلك البحر كل ما هو هدّام ومدمر.

المأزق يكمن في القدرة على الانتقاء، والتمييز بين ما يمكن الاستفادة منه وبين ما يجب إعادته إلى ذلك البحر، وهذا يقودنا بدوره إلى الإقرار بأن المبدأ الأساسي في فهم معنى التصدي للرديء والمسيء لا يجب أن يستند إلى القاعدة العرجاء التي تتبنى فكرة المنع والإلغاء والحجْب والانغلاق تحت شعار زائف لم يعد ينطلي على أحد وهو تأمين الحماية والصيانة "للأفراد والمجتمع" من الملوثات!!.

حماية الأفراد والمجتمع تكون بالدرجة الأولى بالتمكين والتحصين عن طريق خلق حالة من الوعي والإدراك لكل ما يدور في العالم، وهذه الحماية تحتاج إلى برامج وخطط فعلية وحقيقية "وليست على الورق" على كل المستويات بغية إشاعة مناخات تربوية واجتماعية وثقافية، تكون هي بحد ذاتها حصناً منيعاً ضد تلك الملوثات وتتصف في الوقت نفسه بالانفتاح كي تستطيع أن تطلع على ما هو رث وسيء دون أن تتأثر به، وتوظف الجيد والصالح في خدمة الأفراد والمجتمع.

فأنت لا تستطيع أن تحصن ابنك ضد التدخين مثلاً عن طريق منعه من رؤية علبة السجائر أو من رؤية المدخنين أو باعة التبغ أو عن طريق التهديد والوعيد.. وكذلك الأمر إذا ما اكتشفت أن ابنك يسطو على بعض النقود ويأخذها خلسة من جيبك، فإنك لا تستطيع أن تعالج هذا الانحراف عن طريق الزجر والضرب مثلاً أو عن طريق الحرمان من التصرف بأي مبلغ مالي.. علاج هذه المشكلة يجب أن يبدأ بإزالة المسببات، والبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذا الانحراف والتأثر ربما بـ "رفاق السوء".

إذن القاعدة المنطقية تقول إنك إذا أمنت لابنك أرضية تربوية صالحة، واثقة، واعية، تكون قد منحته القدرة على الانفتاح والتمييز بين الجيد والسيئ.. بين البنّاء والهدّام. بمعنى أن "نعلمه الصيد بدل أن نطعمه سمكة".

أما اعتماد أسلوب المنع والحجْب والزجر والوعظ داخل جدران عالية لا نوافذ لها فهو التربة الخصبة لزرع نبت غير صالح وغير مفيد.

يمكن تشبيه العولمة ومؤثراتها على المجتمعات، بالشارع ومؤثراته على الأفراد.. سلباً وإيجاباً، حسب درجات الاستجابة ومستوياتها المرتبطة أساساً بالوعي. العولمة ومؤثراتها والشارع ومؤثراته موجودان شاء من شاء وأبى من أبى.

الانغلاق والمنع لا يمكن أن يؤديا إلا إلى إحدى حالتين لا ثالث لهما: الأولى فقدان التوازن وفقدان القدرة على التعامل مع العالم الخارجي، وهذه ليست من مواصفات الإنسان الصحي المعافى في هذا العصر "فرداً ومجتمعاً"، والثانية استحالة المنع والحجْب في عالم الاتصالات والتقنيات والسرعة الذي أصبح يمتلك القدرة على النفاذ حتى إلى أسرّتنا وحماماتنا وغرف نومنا!!.

من هنا فإن القول بضرورة امتلاك نوافذ واسعة مشرّعة على العالم، وعقول منفتحة وواعية هو الحل الأمثل والأنجع، ولكن شرط أن يستند هذا الحل على تلك الأرضية التربوية والاجتماعية والثقافية والعلمية الصلبة.

العولمة تستطيع أن تبتلع المجتمع الضعيف الواهن وتحوله إلى عنصر منفعل، منساق، منقاد وغير فاعل، وتستطيع كذلك أن تمحو كل تراثه وموروثه الثقافي والفكري بمرور الزمن، أما المجتمع القوي، المتمكن، وغير المتشنج فيستطيع أن يفرض نفسه لاعباً وشريكاً أساسياً وعنصراً فاعلاً ومؤثراً ومنفعلاً في مناخاتها..

الخطر الحقيقي لا يكمن في العولمة، إنما يكمن في آلية تعامل المجتمعات والمؤسسات والأفراد معها..