العراق يشكل مختبرا لكل الاستراتيجيات الأمريكية بعد أن استخدمت "جرأة" مطلقة في احتلال البلد، وربما على عكس كل أشكال الاحتلال الكولونيالي المعروف، فإن إدارة المحافظين الجدد قامت بصياغة تكوينات مختلفة داخل هذا البلد، وبشكل يوحي أن لا تملك تصورا نهائيا لخارطة الشرق الأوسط ككل.

فبغض النظر عن أسباب الاحتلال، لكن الولايات المتحدة التي عينت حاكما عسكريا للعراق لم تلجئ إلى الحلول الكلاسيكية في "عملية الاستقرار"، فصحيح أنها وضعت دستورا للبلاد وعينت حكومة لكنها في المقابل بدأت في بناء المؤسسات من الصفر. فإذا كانت حالات الاستعمار تعتمد دائما على تقوية ةإعادة هيكلة المؤسسات القائمة بما يتوافق مع مصالحها، فإن الإدارة الأمريكية حاولت قبل كل شيء خلق مرجعيات اجتماعية جديدة لصياغة مؤسسات على شاكلتها.

بداية كان هناك الأحزاب والتنظيمات العراقية في الخارج، لكن هذه التنظيمات التي لم تكن سوى "أشخاص" لم تستطع أن تستمر إلا من وجد لنفسه امتدادا داخل الشار الديني أو الطائفي. هذه الصورة خكمت كل المؤسسات، فالمرجعية الاجتماعية الجديدة المعتمدة على مراحل "ما قبل الدولة" أنتجت جيشا مخترقا إن صح التعبير نتيجة ولاءاته المتفاتة، وجهاز شرطة نسمع دائما عن إقالة ضباطه أو اعتقال عناصره، أو صراعاته مع "الميليشبا المحلية".

حقل التجارب لم ينته، فيبدو أن تجارب "الشركات الأمنية الخاصة" دخلت على حقل السياسات الأمريكية فكان ما يعرف اليوم بـ"الصحوة"، وهي نوع جديد من الآليات الذي يتلاقى مع الشركات الأمنية في أنه خارج أي مؤسسة أو دولة، لكن معترف بدوره في حفظ الأمن وسلامة المناطق الموجودة فيها، فهل يمكن أن نسأل ماذا بقي من الدولة بعد هذا الإجراء؟!

عمليا فإن الإدارة الأمريكية قامت قبل ذلك بإجراء مشابه عندما أوجدت مسمى لقوات البشمركة، إلا أنها على ما يبدو نسيت ضرورة وجود "جيش فيدرالي" إن صح التعبير. فالبشمركة مهما تم تسليحهم فإنهم مسؤولون عن منطقة محددة، وأوضحت الأزمة الأخيرة ما بين بغداد وانقرة أن مثل هذه القوات لا يمكن أن تكون بديلا عن مؤسسة عسكرية متكاملة.

وإذا كنا لا نعرف إلى أي مدى سيصل "التجريب" أو "الاختبار" داخل ساحة العراقية، لكننا على الأقل نعرف أن الاستراتيجية الأمريكية لا يمكنها التفاهم مع "مؤسسات دولة" لأنه في هذه الحالة ستنتقل مواجهتها في العراق، وربما في المنطقة ككل، إلى مرحلة ما قبل طرح "الشرق الأوسط الجديد"... فالابتداعات ستتكرر وهي بدأت على مستوى إيجاد طوائف وانتهت اليوم بـ"العشائر" ونتوقع أن يستمر إيجاد عوامل ومرجعيات من العصور الوسطى لبناء "النموذج الديمقراطي" أو نموذج الدولة على سياق "المحافظين الجدد".

مصادر
سورية الغد (دمشق)