اعتُبرت انتفاضة الأقصى نقطة تحول كبيرة في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية الرسمية، وبالرغم من استمرار التنسيق والتعاون الأمني الا ان الدولة العبرية وأجهزتها الأمنية ظلت تنظر للجانب الفلسطيني من خلال القاعدة التي يؤمن بها قادة الدولة، خاصة قادة الأجهزة الأمنية " أنه لا يوجد عرب جيدون". وبعد ما كان التعاون الأمني على أعلى المستويات وقامت الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعمل كبير لمنع وإحباط عمليات عسكرية خاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أخذت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية قراراً بالاعتماد على نفسها.

ومع استمرار الانتفاضة المسلحة وفشل الأجهزة الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية في وضع حد لاستمرارها ووقف العمليات الفدائية من قتل مستوطنين وجنود إسرائيليين، ومنع العمليات الفدائية داخل الخط الأخضر. حدث التحول الأكثر خطورة في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية خاصة الدور الأمني الذي كانت تقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي كانت وما تزال إسرائيل تعتبره الدور الرئيس المنوط بها في حماية "امن الدولة العبرية ومواطنيها".

التحول وقع عندما أقدمت الدولة العبرية في العام 2002، على احتلال الضفة الغربية وتشديد الحصار على الرئيس الراحل ياسر عرفات واقتحام مبنى المقاطعة مقر إقامته، فيما عرف بعملية "السور الواقي"، وقامت قوات الجيش الاسرائيلي بضرب وتدمير مقرات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، واعتقلت مسؤولي وضباط هذه الأجهزة في الضفة الغربية، وبذلك تكون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية اتخذت قراراً بحماية مواطنيها بنفسها، حسب مقولة أفي ديختر رئيس جهاز الأمن العام "شاباك" الذي قال: " نحن فقط نحمي أنفسنا".

في كتاب المردود للصحافيان، عوفر شيلح، ورفيف روكر، جاء: "ان التعاون والتنسيق الأمني الفلسطيني الاسرائيلي وصل لأعلى المستويات ونفذ المسؤولون من الطرفين عمليات مشتركة في مطاردة ومنع وإلقاء القبض على فلسطينيين خططوا ونفذوا عمليات "إرهابية" ضد إسرائيليين"، ويصف الصحافيان لحظة تسليم المسؤولين والضباط في جهاز الأمن الوقائي في بيتونيا أنفسهم عندما دُك المقر بعشرات القذائف والصواريخ، بالإهانة والذل الذي لحق بهم عندما " خرجوا رافعي الأيدي، وتم تحويلهم الى معتقل "عوفر" وهناك التقى بهم الضابط المسؤول عن القطاع الشرقي في الضفة الغربية المدعى " ع" المقصود هنا يوفال ديسكن الرئيس الحالي لجهاز الأمن العام "شاباك".

وحسب ما ذكره الصحافيان فان اللقاء كان دراماتيكياً، هؤلاء الضباط عملوا بشكل مهني كبير مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وزودوها بمعلومات استخباراتية كبيرة ورافقهم الضابط "ع" ومسؤولون آخرون إسرائيليون كبار، المسؤولون الأمنيون الفلسطينيون المعتقلون الذين غدر بهم، أجهشوا بالبكاء، وقالوا له وهم نادمون تسببتم لنا بالإهانة و دمرتم كل شيء".

عملية السور الواقي قضت على كل شيئ لدى الفلسطينيين خاصة الرئيس عرفات الذي قام بإقصاء بعض قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، الا انه بقي محاصرا وسحبت منه صلاحياته لصالح إعادة ترتيب الأوضاع الفلسطينية حسب وجهة النظر والرؤية الإسرائيلية التي ترى في العلاقة مع الفلسطينيين الجانب الأمني فقط، وأنهم لا يستطيعوا حماية الأمن الاسرائيلي، وعليه انطلقوا من المقولة الأساس في الطرح الأمني الاسرائيلي "نحن نحمي أنفسنا بأنفسنا"، "ولا يوجد عرب جيدون"، "ولا فرق بين فلسطيني وفلسطيني".

استمرت إسرائيل في احتلال الضفة الغربية، وفضلت ان تقوم بالعمل الأمني بنفسها وان قطعت العلاقة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية الا ان بعض القادة في الأخيرة حافظوا على علاقة معينة ومستوى معين من التعاون والتنسيق الأمني، لكن ليس بالشكل والآلية التي كانت قبل عملية السور الواقي، وبرغم التزام الطرف الفلسطيني بعد ولادة خارطة الطريق في آب/ أغسطس 2002، والتي وضع شارون 14 تحفظاً عليها عاد التنسيق الأمني أيضا وتمت مطالبة الفلسطينيين بتنفيذ المرحلة الأولى منها المتعلقة بالجانب الأمني.

على الرغم من الوضع المر والقاسي للفلسطينيين والشرذمة والانقسام في صفوفهم، خاصة بعد سيطرة حماس على غزة بالقوة المسلحة، وفشل إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية خاصة في قطاع غزة بناء على خطة دايتون، من تدريب وتسليح الضباط والأفراد في الأجهزة الأمنية والتركيز على الحرس الرئاسي، استمر الجانب الفلسطيني بتدريب الأجهزة الأمنية وإعادة تطويرها في الضفة الغربية.

منذ سيطرة حماس على غزة، وبرغم من عدم ثقة الدولة العبرية بالفلسطينيين وأجهزتهم الأمنية الا أنها وجدت في ذلك فرصة ذهبية لإعادة العمل مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي دمرت كل مبانيها واعتقلت عدداً من المسؤولين فيها، يعود الفلسطينيون في التعاون والتنسيق الأمني مع الجانب الاسرائيلي، ونسمع يوميا من المسؤولين الاسرائيليين شروطا واملاءات جديدة قبل الوصول لاجتماع أنابوليس الأسبوع القادم، منها ضرورة التزام السلطة الفلسطينية تطبيق المرحلة الأولى من "خارطة الطريق" والمتعلقة بالجانب الأمني.

السلطة الفلسطينية خاصة حكومة رام الله وضعت بعد سيطرة حماس خطتها الأمنية لفرض الأمن والنظام في الضفة الغربية، وبدأت بتطبيق ذلك في مدينة نابلس، ووصلت أموالٌ طائلة من الولايات المتحدة الأمريكية والأوربيين ووعود بتقديم المزيد اذا التزم الفلسطينيون بالتزاماتهم الأمنية، وحسب ما صرح به جاك والاس القنصل الأمريكي في القدس بان بلاده ستقدم مبلغاً قدره، 375 مليون دولار لإعادة بناء الأجهزة الأمنية ودعم مشاريع اخرى، وكذلك الحكومة البريطانية التي وعدت بتقديم 500 مليون دولار للغرض ذاته.

الخطة الأمنية التي وضعتها حكومة رام الله قيد التنفيذ بدأت بتطبيقها في نابلس، وبالرغم من حال الانفلات الأمني الحاد في المدينة، ورضى المواطنين على القضاء على المخلين بالأمن والنظام، الا ان ما يجري في الضفة الغربية من ملاحقة المقاومين وتسليم بعض المطاردين لأسلحتهم بناء على قرار العفو الاسرائيلي، وتصريحات وزير الداخلية عبد الرزاق اليحيى، حول رجال المقاومة التي لاقت ردود فعل غاضبة من الفصائل الفلسطينية، يشير الى ان حكومة رام الله ملتزمة بما تطلبه إسرائيل من دون أن تقدم شيئاً.

الضباط الفلسطينيين الذين غُدر بهم وأهينوا واعتقلوا في أثناء عملية السور الواقي، يعودون للعمل والتنسيق الأمني حسب الشروط والمصلحة الإسرائيلية المتمثلة في حماية امن دولة الاحتلال من دون الأخذ في الاعتبار المصالح الفلسطينية وممارسة الاحتلال أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن دون الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، ويضع الشروط التعجيزية قبل الذهاب لاجتماع أنابوليس، من تطبيق التزامات الفلسطينيين بخارطة الطريق الى يهودية الدولة العبرية وغير ذلك.

الجانب الاسرائيلي لم يلتزم بتطبيق التزاماته بخارطة الطريق، ويعد الفلسطينيين بتقديم المكرمات ويطالبهم بالقضاء على الإرهاب، ويضع الشروط عليهم، فهل سيستمر الفلسطينيون في تنفيذ الشروط والاملاءات الإسرائيلية وتطبيق خارطة الطريق من دون النظر للمصالح الفلسطينية ومطالبهم العادلة؟ وهل ستنطلي عليهم بعد كل هذه التجربة الأمنية المريرة تقديم أقلام رصاص فارغة المضمون مقابل بنادق لقتل الفلسطينيين بعضهم بعضاً؟