هذا بلد الحقائق المؤلمة. حقائق تركيبته الطائفية. وحقائق التاريخ والجغرافيا. بلد لا يتّسع لانتصارات بالضربة القاضية. لا يحتمل الهزائم الساحقة. يقدم للخاسر ضمادات وتعويضات. يسرق من وهج الرابح إلى حد إشعاره بشيء من الخسارة. الزواج السعيد محظور فيه. الطلاق الكامل ممنوع. لا بد من التساكن والتنابذ. والاقتراب أحياناً من حافة الهاوية. والوقوع فيها بعض الأحيان. ثم تطل الحقائق المؤلمة. لا بد من الاتفاق والوفاق والنفاق.

هذا بلد مؤلم. الولادة فيه تشبه الولادة على حبل مشدود. لا يمكنك ان تقف في مكانك طويلاً. لا يمكنك ان تحث الخطى. وحين تنجح في إيقاع شريكك تلحقه سريعاً الى الهاوية. لا يحكم بجنازير الدبابات. ولا بأقبية التعذيب. لا يحكم بديموقراطية أثينا. وبرلمان بري لا يشبه أبداً مجلس العموم البريطاني. برلمان لأيام السلم فقط. في الأزمات تنتابه الغيبوبة ويهرب مفتاحه.

الصيغة اللبنانية فريدة فعلاً. أكلة تبولة بمقادير حساسة. الافراط في دس البرغل يجعل الهضم عسيراً. البقدونس الغريب يفسد المتعة. ولا بد من الالتفات إلى الزيت والبصل والتأكد من سلامة البندورة. والدستور طبخة محلية. صناعة قروية بامتياز. شيء يشبه الشنكليش. لا بد من حفظه في جو ملائم. يعمل الدستور في أيام السلم. يتوارى في خضم الأزمات. يلعب الفتيان ببنوده. يتلاعبون بالمقادير فتفسد الطبخة. يهرع المبعوثون لإنقاذ اللبنانيين من الوليمة المسمومة.

يصطدم اللاعبون بجدار الحقائق المؤلمة وشروط المطبخ اللبناني. تنتزع 14 آذار الغالبية في مجلس النواب لكنها لا تستطيع أن تحكم. الحركة نفسها ولدت من قيود المطبخ اللبناني. حاولت تظاهرة 8 آذار وضع يدها على الشارع والملفات. ردت الصيغة اللبنانية عليها بـ14 آذار. ذكرتها بحدود القوة وبالحقائق المؤلمة. الغالبية قوية بعدد الأصوات لكن لبنان لا يحكم بها. المعارضة قوية بالسلاح لكن لبنان لا يحكم به.

وجبة الحقائق المؤلمة. سعد الحريري زعيم غير منازع لطائفته. يحتاج خطة أمنية للخروج إلى شرفة منزله. وليد جنبلاط زعيم غير منازع في طائفته. يطلق التصريحات كأنه يستعجل كتابة مذكراته قبل ان.... سمير جعجع الحاضر في طائفته والأصلب فيها. يكره البارحة ويخاف الغد. في اليومين الماضيين تذكر الثلاثة الحقائق اللبنانية المؤلمة. الفراغ أو تقديم التنازلات. والفراغ مفتوح على الحرب. والحرب باهظة الأثمان. وثمن تفاديها مرتفع.

وجبة الحقائق المؤلمة. يستطيع «حزب الله» تحقيق انتصارات كاملة أو باهرة ضد العدو الإسرائيلي. الانتصارات في الداخل تحكمها قوانين أخرى. قوانين أصعب تفرضها التركيبة اللبنانية. يستطيع الحزب إنجاز حسم عسكري. لحظة انتصاره ستكون بداية الخسارة له. تبدو التركيبة هشة وضعيفة لكنها تتمتع بقدرة غير عادية على المقاومة. يصطدم الحزب ايضاً بجدار الحقائق اللبنانية. ثياب النظام الحالي ضيقة على انتصاره المدوي. لكن ترجمة الانتصار متعذرة في لبنان. في الداخل تصطدم المقاومة بحدود اللعبة وحدود الطوائف. لا يمكن الذهاب بعيداً في الإخلال بمقادير الطبخة اللبنانية.

العماد ميشال عون هو الأكثر تمثيلاً في طائفته. لكن حظه سيئ. لم تسلمه 14 آذار زعامتها حين عاد. وزعامة 8 آذار محسومة أصلاً. كان يمكن أن يكون الرئيس لو تموضع بعناية أكبر. وزَّع التصريحات النارية حين كان يفترض أن يوزِّع الضمانات والمهدئات والضمادات. زعيم قوي لكن إدارته شائكة ومتعذّرة.

جدار الحقائق المؤلمة. لا تنجح التبولة إذا كان أحد مكوناتها مهيض الجناح. المعادلة اللبنانية محكومة بميزان الذهب. والحقائق الاقليمية عادت وفاجأت اللاعبين. لا يحكم لبنان ضد سورية. ولا يحكم لبنان من سورية. لا استقرار في لبنان من دون التفاهم مع سورية. والسؤال هو عن حدود التفاهم وحدود ثمن الوصول اليه.

الطبخة اللبنانية صعبة. لا بد من موافقة سورية على مقاديرها. لا بد من لمسة إيرانية. وموافقة أميركية. واستشارة الطباخ الفرنسي. طبخة الرئاسة صعبة. لا بد من الرجوع من زمن الأحلام والأوهام. لا بد من تنازلات لتوزيع مكونات الطبخة في صورة عادلة وناجحة. يجب اعطاء عناية كافية للبهارات الاقليمية والدولية. إنها الصيغة الفريدة. إنه المطبخ اللبناني.

في المطبخ اللبناني طبخة ذهبية مسمومة. طبخة الفراغ. مكوناتها أحلام وأوهام وألغام وكيدية ودبابيس ومسامير. إنها الطبخة الأخيرة القاتلة. شكراً للطباخين.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)