أبلغُ وصف لحال المنطقة العربية الآن وأزماتها المشتعلة في أكثر من مكان، أنّه حال «العجز الكامل والشامل». وهذا الحال لا ينطبق فقط على السياسة الأميركية التي تحتكر التحكّم بمسار الأزمات القائمة الآن في العراق وفلسطين ولبنان والسودان، إضافةً إلى الأوضاع في أفغانستان وإلى الصراع مع إيران، بل هناك أيضاً عجز لدى الأطراف المقاومة للسياسة الأميركية داخل هذه البلدان أو المناهضة لها على المستوى الدولي عموماً.

هو «عجز كامل» بالمعنى الأميركي، وهو «عجز شامل» بالمعنى المعارض للسياسة الأميركية. فقد فشلت إدارة بوش حتى الآن في كل حروبها العسكرية والسياسية بالمنطقة إلا أنّ هذا الفشل الأميركي لم يؤدِّ أيضاً إلى نجاح البدائل المطروحة للسياسة الأميركية. هو حال «اللانصر واللاهزيمة» لأميركا وللمعارضين لها معاً. وهذا ما يفسّر حجم الغموض المهيمن على مصير أزمات المنطقة كلّها.

وكم هو أمر يدعو للأسف أن يأتي استحقاق انتخابات الرئاسة في لبنان، واللبنانيون عاجزون عن إمكانية حسم حدوث الانتخابات! كذلك في الشأن الفلسطيني، حيث جرى الحديث عن مؤتمر دولي في أنابوليس خلال شهر نوفمبر، وسيقارب الشهر على الانتهاء ولم تُعلن بعد أسماء الأطراف المدعوة ولا جدول الأعمال!

أيضاً، الغموض يلفّ مصير مستقبل العراق والأزمات الأخرى في أفغانستان والسودان وتجاه الملف النووي الإيراني. فإدارة بوش عاجزة الآن عن فرض حلول سياسية أو خوض حروب عسكرية جديدة، وهذا العجز يعني في أحد أوجهه هزيمة لمشاريع وضعتها إدارة بوش لمنطقة الشرق الأوسط ولحروب قامت بها أو دعمتها. لكن لا إدارة بوش اعترفت بهزائمها.

ولا المعارضون لها وصلوا إلى خط النهاية في الصراعات ممّا وضع هذه الأزمات في محطة الانتظار ريثما يتراجع طرف أو يتقدّم آخر، وإذا كان العجز الأميركي مفهوماً الآن وأسبابه مُدرَكة، فما هو مبرّر العجز العربي واستمرار الصراعات العربية ومواصلة المراهنة على حلول خارجية؟.

ولِمَ هذا التسليم العربي الآن بتدويل يحدث لأزمات طابعها محلّي داخلي (كما هي المسألة اللبنانية) وبعدم حصول هذا التدويل لأزمات تحتاج إلى رعاية دولية شاملة وإلى وقف الاحتكار الأميركي في تقرير مصائرها، كما هي القضية الفلسطينية وكما هو الوضع في العراق؟!

أهي ظاهرة طبيعية أن تستدعي انتخابات الرئاسة في لبنان زيارة الأمين العام للأمم المتحدة ووزراء أوروبيين وتدخّل أميركي ـ فرنسي سافر، بينما لا تضغط الأطراف العربية والدولية على جعل قضيتيْ فلسطين والعراق تحت مسؤولية مجلس الأمن ومرجعية الأمم المتحدة؟!، لماذا.

حيث هناك احتلال أميركي أو احتلال إسرائيلي، تكون واشنطن هي المرجعية فقط في الحلول وليس مجلس الأمن، بينما حيث هناك أزمات داخلية، كما في لبنان والسودان، يصبح مجلس الأمن هو سيف إدارة بوش على الأطراف المحلية؟!

لقد أثارت واشنطن بحدّة وشدّة خلال هذا العام قضيّة الملف النووي الإيراني.. وتضغط الإدارة الأميركيّة على القوى المتحالفة مع إيران في المنطقة العربيّة بحيث تحرم طهران من إمكانات الحركة أو التأثير في ساحات أخرى.

وقد استخدمت واشنطن، وما تزال، أسلوب الترغيب والترهيب مع دمشق وحزب الله وحركة حماس، وهي قوى متفاعلة مع إيران ومتحالفة معها منذ سنين عديدة، ولا أعتقد أنَّ واشنطن تستهدف من ضغوطها الواسعة على طهران أو من تصنيف إيران بأنّها التحدّي الاستراتيجي الأكبر لأميركا، خوض حرب عسكريّة معها الآن.

بل هو تحّرك أميركي يريد أصلاً دفع الحكم الإيراني للقبول مضطرّاً بخيارات واشنطن بشأن العراق أوّلاً ثمّ مسألة التسوية الشاملة مع إسرائيل. فسوريا ولبنان، إضافة لحركة حماس المسيطرة على قطاع غزة، هي أطراف مهمّة في الصراع مع إسرائيل، ولم تعترف بها بعد، وبدونها لا يمكن تحقيق تسوية شاملة مع إسرائيل.

ولأنّ التواجد العسكري الأميركي في المنطقة لا يكفي وحده من أجل تحقيق الرؤية الأميركية المستقبلية للشرق الأوسط، فإنّ عناصر ثلاثة عملت وتعمل إدارة بوش على توفّرها بشكل متلازم مع الوجودين العسكري والأمني:

1ـ تغيير التركيبة السياسية القائمة الآن في بعض دول العالم الإسلامي لتصبح مبنيّةً على مزيج من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية، فالديمقراطية لو تحقّقت، دون التركيبة الفيدرالية (التي ستكون حصيلة تعزيز المشاعر الانقسامية في المجتمع الواحد).

يمكن أن توجد أنظمة وحكومات تختلف مع الإرادة أو الرؤية الأميركية، كما جرى مع بعض بلدان أوروبا الغربية أو مع الحكومة التركية بشأن العراق، أيضاً، فإن إثارة الانقسامات الإثنية أو الطائفية، دون توافر سياق ديمقراطي ضابط لها في إطار من الصيغة الدستورية الفيدرالية.

يمكن أن يجعلها سبب صراعٍ مستمر يمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود بالرؤية الأميركية، ويجعل القوات الأميركية المتواجدة بالمنطقة عرضةً للخطر الأمني المستمر في ظلّ حروب أهلية مفتوحة أيضاً لتدخل وتأثير من أطراف تناهض السياسة الأميركية.

إضافةً إلى أنّ التركيبة الفيدرالية القائمة على آليات ديمقراطية ستسمح للولايات المتحدة بالتدخّل الدائم مع القطاعات المختلفة في داخل كلّ جزء من ناحية، وبين الأجزاء المتحدة فيدرالياً من ناحية أخرى.

2ـ التركيز على هوية «شرق أوسطية» كإطار جامع للفيدراليات المتعددة المنشودة في بلدان المنطقة العربية والعالم الإسلامي، إذ أنّ العمل تحت مظلّة «الجامعة العربية» أو «المؤتمر الإسلامي» يمكن أن يؤدّي مستقبلاً إلى ما ليس مرغوباً به أميركياً من نشوء تكتلات كبرى متجانسة ذات مضامين ثقافية متباينة مع الرؤية الأميركية.

كما حدث ويحدث في تجربة الاتحاد الأوروبي، رغم وجود القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا، ورغم وجود حلف الأطلسي والانتماء المشترك لحضارة غربية واحدة.

لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في الشرق الأوسط الكبير المنشود أميركياً، إذ بحضوره الفاعل، تغيب الهويّتان العربية والإسلامية عن أيِّ تكتّل إقليمي محدود أو شامل.

3ـ العنصر الثالث المهم، في الرؤية الأميركية للشرق الأوسط، يقوم على ضرورة إنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وقبل تحقيق التسوية الشاملة التي تتطلّب حسب المنظور الأميركي سنوات عديدة.

وتجد الإدارة الأميركية أنّ تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية سيدفع الأطراف كلّها إلى التسوية والقبول بحدود دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاء الصراعات المسلّحة حتى من غير تسويات سياسية شاملة، وسيساعد على وقف أيّ أعمال مسلّحة في المنطقة، سواء أكانت تحت شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أم ضدّ التواجد العسكري الأميركي في المنطقة.

إذن، كخلاصة، فإنّ واشنطن تريد «ديمقراطيات سياسية» في المنطقة لكن ليس إلى حدّ الاستقلال عن القرار الأميركي. واشنطن تريد صراعات سياسية محلية قائمة على انقسامات إثنية أو طائفية، لكن ليس إلى حدّ الحروب الأهلية المفتوحة. واشنطن تريد صيغاً فيدرالية جامعة لأجزاء في كلّ وطن، لكن ليس إلى حدّ الانصهار الوطني الكامل.

واشنطن تريد إنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لكن ليس إلى حدّ التعامل مع القضايا النهائية الشائكة وتحقيق التسويات الشاملة الآن.

واشنطن تريد التواجد العسكري والأمني في بلدان المنطقة، ولكن ليس إلى حدّ التورّط بأوضاع حروب داخلية استنزافية أو الاضطرار لإبقاء قوات كبيرة العدد إلى أمد مفتوح، ولعلّ خلاصات هذه الرؤية تفسّر المواقف الأميركية الآن من عدّة حكومات وقضايا عربية.

فالعراق والسودان مثلاً يسيران على النموذج الديمقراطي ـ الفيدرالي المرغوب أميركياً. أمّا فلسطين ولبنان، فإنّ هناك تطوّرات تحدث فيهما، قد تدفع باتجاه العناصر الثلاثة الكامنة في الرؤية الأميركية للشرق الأوسط.

لكن من المهم الإشارة إلى أنّ الضغوط الأميركية على دول المنطقة العربية والعالم الإسلامي لا تحصل الآن من أجل تنفيذ مضامين الرؤية الأميركية دفعة واحدة في كلّ البلدان، أو بشكل أولويات واحدة يتمّ تطبيقها على الكلّ، فهناك اختلاف في الظروف تتباين على أساسها الأولويات، بحيث تكون الضغوط الآن على بلد أو أكثر من أجل التطبيع مع إسرائيل.

بينما تكون الضغوط على بلدٍ آخر أو مجموعة أخرى من أجل المسألة الديمقراطية ـ الفيدرالية، أو الضغط على أطراف أخرى لتسهيل عملية إنهاء الصراع مع إسرائيل ووقف الأعمال المسلّحة.

حتى الآن، فإنّ المنطقة العربية تحديداً هي في حال الطرف المُسيَّر لا المُخيَّر، وهي بمجموعها المتشرذم وبأجزائها المنقسمة داخلياً، والمعطوبة سياسياً، فإنها تساير الغموض الأميركي الراهن وتضيف عجزاً عربياً على عجز أميركي راهن، والمحصّلة هي غياب رؤية عربية بديلة في ظل مشاريع إقليمية ودولية حاضرة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)