إياد ونوس

ينشر بالتعاون مع أبيض وأسود

ليس الموضوع المطروح في هذه المادة موجها ضد أي حزب محدد بعينه بقدر ما هو إعادة نظر في الذهنية المسيطرة على الممارسة الحزبية داخل سورية, ودعوة نقدية لإعادة النظر بالرؤى والمناهج والمفاهيم الحزبية, وليدة المرحلة التاريخية التي تلت الاستقلال ثم اتخذت شكلها المادي بإيجاد الجبهة الوطنية التقدمية.

إن كل تكوين حزبي هو رهن بظروف نشأته ومجالات فعله السياسي, وبالتالي علاقته بالحقيقة تبقى نسبية وظرفية وتنتفي هذه العلاقة في حال لم يمتلك ديناميكيات التطور الداخلي لجهة إدراك مقومات التطور الداخلي أو لجهة الخطاب السياسي في الحزب نفسه, ومن حيث تطور الفكر وتبدله بالتوافق مع مستجدات الواقع الموضوعي وما ينتج عن هذا التبدل من أساليب عمل سياسية حزبية, واقعية, مترافقة مع إعادة تحديد المفاهيم النظرية وتجديد الرؤى في العمل الحزبي, بهدف امتلاك القدرة على الفعل الاجتماعي.

هناك دوامة عامة في المشهد الحزبي السوري العام اختلطت فيها المواقف الباحثة عن مبررات لوجودها الحزبي أو مسوغات لبقائها السياسي, بحكم "الثبات" السياسي الذي وصلت إليه الحالة الراهنة في سورية. كما أن الآلية الوحيدة المتوفرة راهنا في سورية, ومهما كانت الأيديولوجية التي يعتمدها حزب ما، هي آلية استبعادية تحجب شرعية العمل السياسي, فالعقائد التي تدور حولها الطروحات السياسية، سواء جبهوية أو معارضة، ترفض ما يغايرها وتقصي ما هو مخالف لشرطها النظري.

لا يمكن الفصل بين التجربة الحزبية داخل مجتمع ما عن تجربة الدولة بوصفها تعبيرا سياسيا ومنظما له، فكلتيهما تجسدان على نحو ما شكل الحضور الاجتماعي بتفاعلات علاقاته ومحدداته وتكويناته المختلفة، كما أن كلتيهما تمثلان شكلين حديثين للتعبير عن الوجود وآليات التفاعل المنظم داخل المجتمع الذي يستكمل مقوماته من خلال الحركة والصيرورة الاجتماعية والانخراط في مجرى التاريخ المجتمعي المحلي والعالمي.

وقد لا يحتاج لإثبات أن "العقلانية الحديثة" هي وحدها الإطار الأكاديمي الذي أحاط بكل تشكل حقيقي ومنسجم وعصري لمفاهيم الحزب، أو المجتمع السياسي، وعلى ذلك لا يعدو القول بإمكانية أن تعبر هذه التشكيلات الحديثة عن وجود اجتماعي عتيق تحكمه آليات تفكير دينية كما هو الحال بالنسبة لسورية إلا أن يكون مجرد حالة عدم انسجام فكرية مع المفهوم الأساسي للحزب. فالمراقب للوضع السوري والمضطلع على التاريخ الثقافي والمعرفي لسورية يدرك أن النظام المعرفي السوري هو نظام لا تشكل "العقلانية الحديثة" فيه أساس الممارسة الحزبية، فكل المضامين التي تتحكم بإنتاج الفكر فيه هي ذات أصل ديني متعالي، يعيد الحقيقة إلى لحظة الوحي التي يعبر عنها النص الديني أو النص النظري للحزب، فهي لحظة تدشين وجودي لا يمكن تجاوزها، كلما اقتربنا منها وتمت محاكاة نموذجها يكون نجاح وجودنا الاجتماعي في هذا العالم مضمونا. وفي الحالات القليلة التي شهدت محاولات التحرر من الحقيقية الدينية، أو إرفاقها بحقائق اجتماعية، عادت آلية التفكير الدينية لتفرض نفسها على شكل العلاقات الحزبية وشكل التعاطي مع المنطلق الفكري النظري للحزب. وفي هذا النموذج يفعل المجموع في الفرد فعله الشمولي لمصلحة إلغائه، وتشتغل كل الآليات الناشئة عن تفاعل مكونات هكذا مجتمع على طريق تأبيد القيم المتمثلة في "الحقيقة النصية"، و كل ما هو خارجها خارج على الحق والجماعة وعرضة للتكفير والتصفية.

وحتى تصبح مقاربة التجربة الحزبية في إطارها المجتمعي السوري ممكنة، سيكون علينا أولا أن نعين مفهوم الحزب، من خلال فهم بنيوي وشامل لمصطلح الحزب السياسي، وهو الفهم الذي يكشف لنا الجهوزية التي تم فيها استقدام المفهوم من أصله الأوروبي، والنقص في تعريفاته الدارجة في أنه مجموعة محددة من الأفراد تجتمع على تصور فكري محدد، وآلية أو نظام داخلي محدد لآليات لتعامل مع البنية الكلية للمجتمع بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

إن الحزب و فق المنهجية الشاملة والبنيوية التي أردناها تصل إلى مستوى أعمق تضيف للفهم الدارج أن الحزب أولا هو ذلك الشكل الحديث والبناء التاريخي الذي كانت له شروطه المعرفية الخاصة، حيث هو وليد المرحلة التاريخية التي أفرزتها عصور النهضة والتنوير والثورة الصناعية في أوروبا، وهذه العصور التي أنجبت واحتضنت عملية تغير المعرفة بشكل ثوري، حيث تهدمت كل الأسس والأركان السابقة للمعرفة الإنسانية في شكلها ومنهجها ومرجعياتها المؤسسة على النص الديني المغلق، وأصبح الفرد ولأول مرة مصدرها ومحددها وغايتها، وقد حدث ذلك بالتزامن مع حالة قطيعة معرفية ونفسية مع الإرث السياسي الإنساني في أشكاله وتعريفاته للإدراك والتفكير والمعرفة، والبنى العقلية والنظم المعرفية بوصفها عوامل ضبط جذرية للوجود بالمعنى الفلسفي والاجتماعي للكلمة، وأصبح الفرد يشكل أساس وهوية الإطار السياسي والثقافي وديناميكيته على جميع مستويات الممارسة الاجتماعية.

وإذا كان الفرد الحر المستقل هو نواة المجتمع المدني الأساسية، ويصبح المنتج الرئيسي للقيم والقانون على أساس أن الحياة الاجتماعية تستمد قوانينها من ذاتها بواسطة الوعي المستقل للإنسان ولأجل الإنسان. وعلى خلفية أن القيم الدينية لا تعترف إلا في كونها المصدر النهائي والوحيد للحقيقة والخلاص حتى في هذا العالم، يتأكد لنا التناقض الكبير بين وظيفة الحزب السياسي بوصفه نتاجا حديثا وبين بنيته التي يحتل فيها العضو الحزبي دورا بنيويا، فالفرد بصفته ذاتا مستقلة وعقلانية ومتحررة غائب في عالمنا السوري، حيث الثقافة الدينية المهيمنة في سورية لا يمكن أن تولد ذواتا حرة أو عقلانية أو حديثة، ويبدو الاعتقاد بأن الفرد السوري واع بذاته المستقلة وفق هذا المعنى أو انه متحرر من الرؤية الدينية للعالم ومن تحديداتها المعرفية هو نوع من التسرع في الحكم.

فهل الفرد الذي يعتبر الحرية حتى في أبسط أشكالها، أي الشخصية، فكرا أو ممارسة، زندقة وإباحية، إذ لا يوجد لها أساس ضمن الإطار المعرفي العام لثقافته، الذي يتحكم بكل تفاصيل قراءته ووعيه ومواقفه، والذي لا يتعامل مع الحقائق إلا وفق ثنائيات قيمية متضادة ويتقوقع في فكرة الفرقة الناجية التي لا يستطيع مغادرتها إلى وعي مدني وعقلاني، ولمن تعرض لقسر الحقائق الاجتماعية والدينية في العائلة ولم يألف الاستقلالية في الفكر والسلوك، هل له أن يكون فعالا وإيجابيا في وجوده الحزبي أو أن يكون موضوعيا في التعامل مع حقائق العصر وواعيا لتحديات المحيط السياسي والتعامل معهما بعلمية ومسؤولية، هل له أن يمارس عملا سياسيا عقلانيا وعلميا، حديثا وفعالا، أم إنها مستحيلة لأنها تتضارب مع الشرط الثقافي والتاريخي المنمط الذي خلق والفرد السوري وتشكلت مفاهيمه وفق محدداته.

لذلك ألا يكون مألوفا لدينا صورة ذلك الحزبي المؤمن مطلقا بكاريزما الحزب المؤسس والزعيم والقائد، المطمئن للسكون والواثق بالأعضاء الأقدم، وأن تكون علاقته مع الجديد محل رفض دوما، فهو لا يؤمن بالجديد ولا الأفكار الجديدة ولا الدم الجديد. وهل يمكن لعلاقته مع الحزب أن لا تتحكم بها انتماءاته الأقدم والأرسخ والأكثر تحكما بمصيره (العائلة، القبيلة، الدين، الطائفة)، أو ليس غالبا ما تطفو هذه الانتماءات على السطح عندما تواجه الحزب مسائل أكثر مصيرية، وعندها إما يكون قرار الحزب على هواه أو لا يكون الحزب. وحينها أيضا يتطور ذلك الاصطفاف الشاذ على نحو أكثر انسجاما مع تكوينه التقليدي المشار إليه سابقا ويتحول الحزب بالتالي إلى مجموعة أفراد متناسخين و"تكفيريين" تجاه كل ما هو مختلف. بمعادلة مفادها إما الآخرون على خطه الفكري "الصحيح" و"المستقيم" وإلا الآخر كافر وخائن وعميل.

وعند أخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار، تصبح بقية الظواهر داخل الأطر الحزبية التي ميزت التجربة الحزبية والسياسية على نحو عام في سورية مفهومة ومبررة أيضا، فسيطرة "الأوائل" و"الأكثر التزاما" في الحزب على المدنيين، وخارطة الانشقاقات الواسعة والدائمة، والتدجين السياسي للأعضاء تحت مسميات تتلاعب بالحقائق في أي حزب كلها تصبح مجرد تحصيل حاصل.

وفي حالة "المعارضة" السورية، شكل خضوعها للبراغماتية الفجة من خلال استخدامها خطابات تبجيلية أو مواربة، إلى جانب غياب الرؤية السياسية العقلانية الحديثة، أدى بها إلى ممارسة الآليات ذاته، التي تتجلى أكثر ما يمكن في تبجيل الديمقراطية، معتبرة أن السوريين لديهم الجاهزية المعرفية الكافية لتبني الديمقراطية، وأن ذلك أمرا بديهيا، بضغط الصراع على السلطة والثروة ومواقع النفوذ أو ربما تحت إلحاح مكاسب سياسية بحاجة إليها بعض القوى السياسية ذات الوعي الانفعالي للنهوض بالمجتمع والواقع السوري دون إيلاء الاهتمام بالتشخيص العميق للأزمة الحزبية وخيبات الممارسات الحزبية في سورية .

فتغنت تجمعات المعارضة بتسرع بالديمقراطية على أنها الحل، لكنها واربت عن متطلباته الفكرية والمعرفية، ولم تحاول النظر في الأطر الثقافية والاجتماعية والسياسية المطلوبة لتأسيس الديمقراطية والحداثة في الحياة العامة السورية، وتؤمن المعطيات المختلفة التي تساهم في إيجاد البيئة المناسبة لإنجاحها، وإنتاج الأشكال الحزبية المناسبة للتعامل معها.

لذلك كان من الطبيعي أن تكون آلية وطرائق اشتغال كل الأحزاب السياسية السورية متشابهة إلى درجة كبيرة إن لم تكن متطابقة، فما ينطبق على حزب ليبرالي يمكن أن ينطبق على قومي أو يميني، وما ينطبق على أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ينطبق على أحزاب أو تجمعات المعارضة. ولم يكن ليسمح اختلاف طروحاتها الفكرية والسياسية ولا حتى منطلقاتها النظرية في أي تعديل تطبقه على شكل ومضمون ممارستها السياسية أو في صياغتها على نحو مختلف، فآليات عملها واحدة على المستوى العميق، تستند إلى الحدية ذاتها، وترفض الآخر، وتحتكر الحقيقة الكلية، وتمارس الاستبعاد والحذف والتشهير بما يتماشى مع حاجياتها وإغراء مصالحها في صراعها من أجل مواقع السيادة في المجتمع .

لقد وصلت الأزمة في الممارسة السياسية لهذه الأحزاب إلى درجة تجذير الأزمة المعرفية وتقوية شروط إعادة إنتاجها، فاستخدامها لوسائل التجييش الحديثة وصناعة الرأي السياسي زاد من تمويه مواقفها ودفع الأسس المعرفية القديمة وتأخرها الجذري إلى مستوى عميق.

عموما، كانت الأحزاب السورية تنظيمات حديثة من ناحية الشكل فقط، أما مادتها وعناصرها الهيكلية فهي دينية بامتياز. فقد سيطرت الذهنية التقديسية والإقصائية والتعبوية على آليات الممارسة الحزبية، ما أدى إلى جمود الرؤى وغياب البرامج وضيق الأفق. وبالتالي، بات الخطابات السياسية فجة وغير جذابة في أفضل الأحوال، هذا إن لم تكن خارجة عن مرحلتها، وتكرس لحالة قطيعة مع حركة المجتمع السوري وتناقضات تطوره غير المتفاعلة.

مصادر
سورية الغد (دمشق)