كان على الثقافة الاجتماعية في سورية تجاوز عتبة الزمن والانتقال في مواجهة "انهيار" الدولة العثمانية، فالأحزاب السياسية مثل غيرها من "التشكيلات الحديثة" ظهرت مع بداية القرن العشرين على شكل جمعيات في البداية، لكنها سرعان ما أصبحت "أحزابا" تملك توجها "إيديلوجيا" على الأغلب.

وربما كانت عملية "تجاوز" الزمن هي النقطة الحاسمة في رسم مسارات الأحزاب، فتجربتها لم تحمل تغيرا اجتماعيا، او ثقافة جديدة قادرة على استيعاب طبيعة هذه المؤسسات، فمقارنة بدول تملك تجارب حزبية عريقة نجد أن حزب العمال البريطاني (حزب يسار الوسط في بريطانيا) بدأ نشاطه عام 1900 حين تكونت لجنة تمثيل العمال في البرلمان ، وفى عام 1906 تم انتخاب 26 عضوا من العمال, لكنه كان يملك جذورا في تنظيمات خارج البرلمان، فهو كان عبارة عن اتحاد لجماعات من أهمها حركة نقابات العمال, ومجموعة الجمعيات الاشتراكية وحزب العمال المستقل والجمعية الغابية والاتحاد الماركسي الاشتراكي الديمقراطي، هذا الامتداد شكل تيار الحزب وربما ضمان استمراره حتى اللحظة الراهنة، مع الإشارة أيضا إلى أن لبريطانيا تجربة خاصة كونها ربما الدولة الوحيدة التي لا تملك في تاريخها الحديث أي عمليات احتلال وهي لا تحتفل بـ"يوم استقلال".

ومقارنة مع "الاستقرار البريطاني" أو التفاعلات الفرنسية العنيفة التي أنتجت ثورتها الشهيرة (1789)، لم يكن بمقدور أي حزب ظهر في سورية التعبير عن مصالح واضحة نظرا للمرحلة الثقافية التي كانت تعيشها سورية مع نهاية الحكم العثماني وحتى بداية الاستقلال أواسط القرن الماضي. وبغض النظر عن المراحل الأولية التي خاضتها النخب باتجاه تأسيس الأحزاب، فإننا نسجل هنا أربع ملاحظات أساسية تبدو ضرورية لقراءة الشكل الحزبي اليوم وعلاقته بالمشهد السياسي:

 لم تظهر الجمعيات "السرية" في نهاية الحكم العثماني كتشكيلات مبنية على تيارات اجتماعية، فهذه الجمعيات التي عبرت عن بداية الوعي السياسي كانت تعمل داخل النخب، فكان من الصعب نتيجة الظروف الاجتماعية والنظام السياسي أن تمتلك تيارات وهي بالأساس "جمعيات سرية"... فبداية تنظيم الحياة السياسية على المستوى الأهلي على الأقل كان يحمل طابعا نخبويا أصبح مع الزمن "سمة" للعمل الحزبي بشكل عام.

 ربما على عكس الأحزاب في أوروبا كان على الأحزاب السورية أن تهتم منذ ظهورها الأول في صياغة مفهوم "الانتماء"، أي انها كانت جزء من "الحركة القومية" وبلورة هذا المفهوم، فالأحزاب ومنذ لحظات نشأتها الأولى كانت أمام تحولات في تشتيت الهوية والانتماء، مثل اتفاقيات سايكس – بيكو أو وعد بلفور، التي كانت تحد وجودي امام الهوية التي بدأت تتبلور منذ نهاية القرن التاسع عشر. وبالطبع فإن الصراعات الأولية التي ظهرت كانت بين الانتماء السابق لمرحلة النهضة العربية والانتماءات اللاحقة التي عبرت عنها الأحزاب العروبية، أو الحزب الشيوعي السوري الذي رفض الفكرة القومية، وأخيرا الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان يرى الانتماء إلى الأمة السورية. هذه التشكيلة الحزبية ماتزال قائمة حتى اليوم دون كثير من الإضافات. لكن كافة توجهات الأحزاب لم تكن بعيدة عن الرسم الاستراتيجي الجديد، وهي كانت تحاول مواجهتها فكريا على الأقل.

 كان على الأحزاب مهمة "بناء المجتمع" بدلا من أن تكون نتيجة لارتقاء الثقافة الاجتماعية، بالطبع فإن هذا العمل كان يقف على احتمالات مفتوحة من الفشل والنجاح، والتعامل مع التغيير الاجتماعي بأساليب متباينة ما بين "العنف الثوري" في القرن الماضي، وصولا إلى التغيير الديمقراطي السلمي الذي يطرح اليوم. ووسط هذا التباين لم تظهر منظمات أهلية مستقلة، وبمعنى آخر كان المجتمع المدني ملحق كلية بالمجتمع السياسي، واليوم بدأ البعض يحاول التفكير بإحلال "المنظمات المدنية" بدلا من "الأحزاب السياسية"

 تبنت الأحزاب السياسية كل "المؤسسات الحديثة" مثل المدارس والنقابات والاتحادات، إضافة لكونها مسؤولة عن بناء "الدولة" التي لم تكن موجودة بشكلها الحديث قبل انهيار الدولة العثمانية، وهذا التبني أدى لخلط المصطلحات، وحتى لعمليات دمج ما بين البنية الحزبية وباقي المؤسسات، وإذا كانت عملية "الدمج بهدف "بناء المجتمع" أو "تحديد مصالحه"، فإنها أدت عبر الزمن إلى اختصار الحياة السياسية بنشاط الأحزاب وحريتها، وغياب مفهوم المشاركة الواسعة في بناء الدولة التي لا يمكن حصرها فقط بالنشاط الحزبي.

إن الملاحظات السابقة ربما توضح أن الأحزاب كانت نقطة تحول حقيقي في سورية، لأنها ورغم التكوين الثقافي الذي ورثته الأحزاب من الحقبة العثمانية لكنها حاولت "إعادة الروح" إن صح التعبير إلى حركة المجتمع، وهو ما يفسر نشاطها منذ البداية داخل الجيش على سبيل المثال، لأنه المؤسسة الأكثر تنظيما وربما فاعلية، والأهم من ذلك أنه أداة التغيير في تلك المرحلة بعد عدد من "الانقلابات العسكرية" التي شهدتها سورية بعد الاستقلال.

مراحل حزبية خاصة

أزمة الحياة السياسية اليوم يمكن رؤيتها بـ"أزمة الأحزاب" سواء كانت ضمن "الجبهة الوطنية التقدمية" أو خارجها، فخارطة الأحزاب لم تتغير كثيرا، ويبدو للمراقب العادي أنها ماتزال تقف عند حدود "مطالبها الأساسية"، فمعركة "الهوية" لم تحسم بعد، ومازلنا أمام النقاط الإشكالية الأساسية، التي تداخلت بحكم التجارب الحزبية مع هموم "الديمقراطية" و "المجتمع المدني". لكن المسألة تبدو أعمق بكثير من مجرد الاحتكام إلى الواقع الحزبي الحالي فقط الذي أثرت فيه ظروف كثيرة، لأن الأحزاب مثلت بالنسبة للسوريين منذ الاستقلال النافذة الأكثر اتساعا للدخول إلى الحياة المعاصرة. ولا بد هنا من التعامل مع تأثير الأحزاب على أنها كانت الإطار الأوحد بالنسبة للنخب الثقافية للوصول إلى الحياة العامة، بعد أن كانت المقاييس القديمة مسيطرة بقوة مثل الأصول العائلية أو غيرها على مسار الحياة السياسية، ولا بد هنا من التأكيد على نقطتين أساسيتين:

 إن التغيير الاجتماعي الذي طالبت به الأحزاب وإن لم يتحقق وفق تصوراتها، لكنه بدل الكثير من المعطيات في الحياة العامة السورية. فالبرلمان ومنذ عام 1956 بدأ يضم كتلا برلمانية، وذلك في مقابل التمثيل القديم، وفي نفس الوقت فإن الأحزاب التي امتلكت إيديلوجيات استطاعت أيضا فرض بعضا من برامجها حتى ولو كانت خارج السلطة، فوجود حزب البعث في السلطة منذ عام 1963 لا يعني أن برنامجه كان يظهر بمعزل عن الأحزاب الأخرى. ورغم أن سلبيات العمل الحزبي طفت على سطح الحياة العامة، لكننا اليوم نقف أمام نتيجيتين: الأولى أن هذه المرحلة التاريخية لا يمكن القفز عليها، فنتائجها حاضرة سلبا وإيجابا في تفاصيل الحياة السياسية، والثانية أن الحركة الحزبية كانت ضرورية لرسم "الحياة السياسية" بعيدا عن انتماءات ما قبل السياسة، وهي اليوم أكثر ضرورة مع انتعاش الانتماءات والولاءات القديمة على الأخص بعد احتلال العراق.

 إن الحكم على فشل التجارب السياسية للأحزاب يحمل نوعا من التعسف، لأن التحول الذي شهدته المنطقة كان أحيانا أكبر من طاقة الأحزاب التي لم تمتلك خبرات كاملة لمواجهة الأزمات، فتاريخ الأحزاب، او الحياة السياسية، كانت تاريخ أزمات بدأت في فلسطين بعد الاستقلال، واستمرت حتى اللحظة الحاضرة. فالأحزاب السياسية بقدر ما هي ضرورة من أجل بناء "دولة حديثة" فإنها في نفس الوقت ضرورة اجتماعية أكثر من أي وقت مضى لأنها الوحيدة القادرة على إيجاد مؤسسات بالمعنى الحديث.

لا شك أننا اليوم نعيش أضيق نطاق للحوار الحزبي، هذا النقاش الذي يجب أن يؤكد على أهمية مثل هذه المؤسسات، فالأحزاب الموجودة اليوم بمختلف أطيافها ليست عاجزة عن الحركة بسبب "قيود" معينة، أو حتى لأنها عاشت ظروف تاريخية قاسية، فهذه العوامل يجب أن لا تمنع التفكير بحقيقة "الحزب" كمؤسسة حديثة قادرة على التعامل مع الثقافة السائدة وتطويرها.

وإذا كان المشهد السياسي اليوم يضعنا أمام "مؤسسات حزبية" يراها البعض من الماضي فلأن الأحزاب، مثل النخب، مقتنعة أن وجودها كاف بذاته، وأن "المصالح الاجتماعية" لا يمكن النفاذ إليها إلا عبر "المطالب السياسية"، وهي تتجاوز عبر هذا الاعتقاد أن مسؤوليتها الأهم هي مشروعها الذي انطلقت به ربما منذ أكثر من نصف قرن، وهو لا يحتاج للمراجعة بل لإعادة بناء واستخدام كل المفردات الخاصة به. فالحوار الحزبي اليوم هو نقاش حول التحالفات سواء داخل أحزاب الجبهة او خارجها، دون ان يتوسع إلى "الخطر" الذي يداهم مفهوم الحزب السياسي، فتتحول التشكيلات خارجه إلى أشكال تعاونية تصور حالة ما قبل السياسية ابتداء من "التشكيلات الإسلاموية" وانتهاء بعودة مفهوم "العشيرة، كما يحدث في العراق (صحوة العشائر حسب الإعلام العربي).

الحوار الحزبي المطلوب يمحي مسألة "التجني على الأحزاب"، لأنه يعيد رسمها داخل المشهد السياسي عموما، وربما يحاول تشخيص هذا الموقع ضمن الزمن الحالي لتستطيع قراءة تاريخها وتحديد ما تريده من المستقبل، فلا يكفي التنبه للخطر كما يظهر في بيانات الأحزاب السياسية على مختلف أشكالها، ولا يكفي أيضا الحديث عن انحسار التيارات الحزبية وتأثيرها، أو التنبيه لمخاطر البعد عن الديمقراطية، لأن المشكلة اليوم في موقع الأحزاب وربما أدوارها في المستقبل، والسؤال عن إمكانية النهوض بها أو البحث عن صيغ حزبية جديدة....

ما يمكن أن نراه اليوم في الصيغ الحديثة يبدأ من مسألة "المشاركة" التي احتوت النشاط الحزبي، في وقت هناك ضرورة لبناء الحياة السياسية قبل طرح مسألة المشاركة، وعملية البناء ربما تبدأ باستعادة الأحزاب لجمهورها، وهي الآلية التي تعود فيها الأحزاب إلى مفهوم وضع البرامج التفصيلية، أو استكشاف المصالح الاجتماعية الناشئة، فالمطلوب اليوم "صناعة السياسة" داخل المجتمع التي يمكن قراءتها من خلال:

 تحديد الأحزاب لمواقعها الحالية، لأنه من غير المعقول بعد انقضاء أكثر من خمسين عاما على الاستقلال أن تبقى الأحزاب تملك نفس الرؤية السياسية للواقع، وتطرح نفس الحلول، فالقضايا العامة اتجهت نحو التعقيد وأصبح النفاذ إلى المجتمع يحتاج لأكثر من "الشعار السياسي" فالمواطن يريد معرفة موقعه ودوره داخل هذا الشعار.

 إعادة رسم موقع الأحزاب من "السلطة السياسية"، لأن مسألة "تداول السلطة" التي تطرحها معظم الأحزاب ليست غاية بذاتها، وإذا لم تملك التيارات السياسية جغرافيتها الخاصة داخل المجتمع فمن الصعب عليها أن تحقق أي غاية حتى ولو كانت موجودة في مواقع السلطة. فالأحزاب كيان قائم بذاته يشكل بديلا حديثا للانتماءات القديمة، وهو أيضا تجمع مصالح اجتماعية لا يتحدث باسمه بل يعبر عن "رؤية عامة".

 ربما على الأحزاب أن تدرك أن "صناعة السياسة" ليست فقط في تحديد الأهداف المرحلية، أو حتى دفع الناس للانخراط في العمل العام، فهذه "الصناعة" اليوم متراكبة مع كل "المشكلات" أو الأزمات الداخلية والدولية منذ عهد الاستقلال، فلا يكفي أن تتضمن البرامج المواقف مما يحصل بل أيضا رؤية الحلول بشكل موضوعي

 . فالسياسة لم تعد تحديد اتجاهات بل القدرة على استخدام كل الممكنات وهو أمر حساس ومعقد في ظل دولة تملك كتلة سكانية متنامية وظروف سياسية صعبة تحاصرها إقليميا ودوليا.

بعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال لا يمكن رؤية الحياة السياسية السورية بمعزل عن الأحزاب، ولا يمكن أيضا ترك الأسئلة التي فتحتها هذه التنظيمات والحديث عن "هوية" مجهولة، فقبل أن نغلق الأسئلة الأولية لن نستطيع فتح مساحات جديدة في المستقبل.