بداية، لا بد من استكشاف الدوافع الحقيقية التي أرغمت الرئيس الاميركي جورج بوش، على تحريك مشروع "خريطة الطريق" بعد مرور وقت طويل على تجميده. يجمع المحللون على القول ان فشل نظرية الرئيس بوش في العراق دفعه الى فتح ملف السلام الذي وضعه والده في مؤتمر مدريد 1991، أي ملف قضية الشرق الأوسط.
وكان صقور ادارته السابقون من أمثال بول ولفوفيتز واليوت ابرامز وريتشارد بيرل ودوغلاس فايث، قد حرضوه على خوض حرب العراق لاعتقادهم بأن إعادة تشكيل المنطقة تسقط تلقائيا القضية المركزية التي شغلت العالم بحروبها المتواصلة مدة نصف قرن. ولما خرجت "الزمرة" المتحكمة بقرارات السياسة الخارجية من البيت الابيض، اعتمد جورج بوش نظرية الرؤساء السابقين بأن حل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي هو مفتاح السلام في الشرق الاوسط.
مقابل فشل الحملة العسكرية الاميركية في العراق، خسرت اسرائيل ايضا حربها ضد "حزب الله"، الامر الذي وسع تيار المطالبين بضرورة تجديد مشاريع السلام وإنهاء الاحتلال في فلسطين والجولان. وهكذا ولدت من رحم هاتين الهزيمتين فكرة البحث عن نصر سياسي توقع جورج بوش ان يجده في أنابوليس. وكلف وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بالاشراف على تطبيق خطة "خريطة الطريق" بالاشتراك مع محمود عباس وسلام فياض عن الفلسطينيين، وايهود اولمرت وتسيبي ليفني وايهود باراك عن اسرائيل.
كان زعيم المعارضة في اسرائيل بنيامين نتنياهو اول من هاجم فكرة إحياء مفاوضات السلام، وادعى في الكنيست ان اولمرت سيمنح نصف القدس لـ"حماس"، ويقدم تنازلات حيوية تعرض البلاد لأخطار أمنية متواصلة.
ودافع اولمرت عن سياسته بالقول ان تجاهل اقتراحات محمود عباس وسلام فياض، سيفتح امام "حماس" و"الجهاد الاسلامي" باب السيطرة على الضفة الغربية. وقال ان تمسك اسرائيل بالوضع الراهن – كما يقترح نتنياهو – سيغرقها في بحر من الدماء والدموع على امتداد خمسين سنة اخرى. واعترف بأنه سيكون مرنا قدر المستطاع، ولكنه لن ينسحب من الضفة الغربية قبل القضاء على "منظمات الارهاب".
صحيفة "معاريف" انتقدت بشدة هذا الطرح المريب، وكتبت تقول انه من الافضل للطرفين، عدم عقد قمة انابوليس، إذا كانت ستتحاشى البحث في القضايا الجوهرية مثل مستقبل القدس وحقوق اللاجئين وترسيم حدود الدولتين. واستنتجت الصحيفة في افتتاحيتها، ان قمة مخصصة للنقاش العقيم طوال سنة كاملة، ستعبد الطريق لعودة المتطرفين الى مدن الضفة، وتعرض اولمرت وابو مازن لانتقام الانتحاريين. اضافة الى هذا، فان حذف القضايا الجوهرية من وثيقة المبادىء سيحرج عباس وفياض، ويؤدي الى تقوية تيار "حماس" نتيجة الفشل وخيبة الأمل.
يقول المراقبون ان الخلافات في وجهات النظر بين طاقمي المفاوضات الفلسطيني والاسرائيلي، يمكن ان تنسف المؤتمر خلال الجلسات الاولى، والسبب ان نهج رئيسة الوفد الاسرائيلي المفاوض الوزيرة ليفني، يختلف عن نهج اولمرت او باراك.
ففي حين اتفق عباس واولمرت على بحث القضايا الشائكة بعد المرحلة الاولى المتعلقة بتفكيك المستوطنات غير الشرعية... سارع ابو العلاء الى تقديم الأهم على المهم بحيث طالب ليفني بضرورة تضمين وثيقة انابوليس مبادىء الحل لكل المسائل: دولة فلسطينية في حدود 1967، شرق القدس عاصمة لها، وتسوية موضوع اللاجئين.
يتردد في واشنطن ان كوندوليزا رايس أقنعت صديقتها ليفني بألا تستغل موقعها كرئيسة للوفد المفاوض، بحيث تعرقل المفاوضات. ذلك انها تعلم جيدا ان المكاسب السياسية سيجنيها اولمرت في حال نجح المؤتمر. ومن المؤكد ان اولمرت سيستثمرها في الانتخابات المقبلة كي يضمن زعامته حزب "كاديما".
وبما ان ليفني لا تخفي طموحاتها الشخصية في وراثة الزعامة، فقد تستغل دورها لخلق متاعب وخلافات مع اعضاء وفدها او الوفد الفلسطيني. وسبق اثناء مرحلة الاعداد للمؤتمر ان طلبت من محمود عباس اجوبة تتعلق بالترتيبات الامنية داخل الدولة الفلسطينية المستقلة، مع تعهد بحل مشكلة اللاجئين وعدم عودتهم الى اسرائيل. ويرى المراقبون ان هذه النقطة ستكون عامل تفجير للمفاوضات في حال اصرت ليفني على استخدام عبارة "دولة اليهود" بدلا من اسرائيل. وهي تستند الى اعتراف جورج بوش بهذه الصيغة التي استعملها في خطابه اثناء زيارته العقبة. كما تستند الى كتاب الانتداب البريطاني الذي صدر عقب اعلان وعد بلفور وخلاصته: "نظراً الى الاعتراف بوجود صلة تاريخية بين الشعب اليهودي وارض اسرائيل التي تشكّل اساساً لأعادة تأسيس وطنه القومي في هذه البلاد... الخ".
والثابت من مراجعة ملف الخلافات ان عباس واولمرت، اتفقا على استخدام تعريف أكثر غموضاً، وبدلاً من أن تعرف اسرائيل كـ"دولة لليهود" صاغ الطرفان تعريفاً مخففاً يقول: "اتفقا على حل الدولتين للشعبين اليهودي والفلسطيني". وفي هذا الاطار يتخلى الوفد الفلسطيني عن تعريف القدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين، مقابل تخلي الوفد الاسرائيلي عن تعريف دولته بأنها "دولة اليهود". والمؤسف ان هذه الصياغة تعتبر فخاً للفلسطينيين، باعتبار ان اسرائيل ستصبح دولة لليهود فقط، الامر الذي يسمح لها بطرد الفلسطينيين من داخلها (عددهم مليون ونصف مليون) كما يسمح للسلطة الفلسطينية باستيعاب لاجئي 1948 (نحو ثلاثة ملايين) داخل الدولة الجديدة، شرط موافقة اسرائيل على فرزهم أمنياً. وهذا معناه إلغاء حق العودة تحت غطاء الكلمات الفضفاضة.
طبعاً اعترض الفلسطينيون في البداية على الصياغة الاسرائيلية التي تعتبر ان حق تقرير المصير هو "لكل شعب في بلاده". وبما ان اسرائيل هي وطن الشعب اليهودي، فإن فلسطين هي وطن الشعب الفلسطيني. ولكن هذه الصياغة قد تتعرض للنسف في حال أصر رئيس طاقم المفاوضات الفلسطيني أحمد قريع على تطبيق القرار 194 الذي يضمن حق العودة، الخلاف الآخر المرشح لنسف المؤتمر يرتكز على القرارات الدولية والاتفاقات السابقة. ففي المسودة التي قدمها الوفد الفلسطيني مطالبة صريحة بأهمية اعتماد "مبادرة السلام العربية" والقرارات الدولية ومبدأ "اقامة دولة فلسطينية سيادية، ومستقلة تعيش بسلام وأمن الى جانب دولة اسرائيل". في حين يرى الوفد الاسرائيلي أن أسس المفاوضات يجب أن ترتكز على المراحل المبينة في "خريطة الطريق" حسب المسوّدة الاصلية التي اقترحتها واشنطن للاعلان المشترك في أنابوليس. وهي تتضمن مطالب الرباعية الدولية التي تدعو الى الاعتراف باسرائيل ونبذ "الارهاب".
ويبدو ان الوفد الفلسطيني اعترض على استخدام كلمة "ارهاب" للتدليل على الانتفاضة وعمليات "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، واقترح وضع مواصفات أخرى مثل "التحريض والتطرف والعنف". أما بالنسبة الى الفقرة المطلوبة لتحقيق الاتفاق، فقد اقترح الفلسطينيون جدولاً زمنياً لا يتعدى الثمانية أشهر، بينما طلب ايهود اولمرت فترة اضافية تنهي المفاوضات مع نهاية ولاية بوش. وربما يتوقع في حال تحقق النجاح، ان يوظف الحزب الجمهوري هذا الانجاز التاريخي لتعويم مرشحه للرئاسة.
في حديثه للصحافي وولف بلتزر (قناة سي ان ان) اعترف الرئيس بوش بأنه لا يملك قوة الفرض على اسرائيل، ولكنه سيتدخل عند اللزوم من أجل تحريك المسارات. وقد اقترح الوفد الفلسطيني تشكيل لجنة ثلاثية لمتابعة تطبيق "خريطة الطريق" ومراقبته، على أن تكون الولايات المتحدة هي الحكم في الخلافات.
بعد زيارته الاخيرة لدمشق، قال نائب وزير الخارجية الروسي الكسندر سلطانوف، ان بلاده على استعداد لعقد لقاء خاص بالتسوية السورية - الاسرائيلية. وبدلاً من أن ينتظر نتائج مؤتمر أنابوليس، أعلن ان المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية لا تمنعنا من المضي قدماً نحو التسوية السلمية الشاملة في المنطقة، وذلك من خلال اتخاذ خطوات ضرورية على المسار الاسرائيلي - السوري.
ويفهم من هذا الكلام أن موسكو قد تستضيف المفاوضات السورية - الاسرائيلية مطلع السنة المقبلة، وأن واشنطن تؤيد هذه الخطوة بحيث يتحرك مسارا السلام في وقت واحد. والثابت ان تركيا لعبت دوراً اساسياً في هذا المجال، لأنها توسطت مع واشنطن ودمشق وتل أبيب، وساهمت في نقل الشروط التي وضعت كمقدمة لإدراج مرتفعات الجولان المحتلة على جدول اعمال المؤتمر.
غالبية اللبنانيين تعتقد أن انخراط سوريا في مسيرة السلام، جرى لاسباب بعيدة عن استرداد الجولان. وقد ترددت أصداء هذه الهواجس على شبكات التلفزيون، بأن الترحيب الذي لقيته عملية اشتراك سوريا، سيكافأ بعودة سيطرتها على لبنان مثلما كوفئت على مشاركتها في الحرب ضد صدام حسين. ويرى هذا الفريق المتخوف أن خروج دمشق عن خط ايران، يشكل انعطافة سياسية كبيرة يصعب تحقيقها لولا الوعد بأن حصتها في لبنان ستكون أكبر من حصتها في ايران. وقد أنكرت كوندوليزا رايس وجود نية من هذا القبيل، وادعت ان لبنان لن يكون موضع مساومة لا في الحاضر ولا في المستقبل. ولكنها زادت على هذا الموقف امام سياسي لبناني زارها منذ مدة قصيرة ما خلاصته، بأنها تتحدث باسم بلادها، ولكنها لا تستطيع أن تضمن تصرفات بعض اللبنانيين الذين انتعشوا وبرزوا خلال العصر السوري!

مصادر
النهار (لبنان)