فيما ينتظر الكثير من المراقبين فحوى الرسائل التي سيوجهها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارته الثانية للجزائر في ظرف أقل من خمسة أشهر بعد تلك التي قام بها في يوليو/تموز الماضي، فإنّ الوافد الفرنسي بات العنصر الأكثر جدلاً في الجزائر، وسط ضجة غير مسبوقة بين رياح التهليل الرسمي وبركان الغضب الشعبي. ففي وقت تهلّل الحكومة الجزائرية لما تسميه "شراكة استثنائية" تسعى لتجذيرها هذه المرة، على طرف نقيض، ينظر الشارع المحلي بشزر شديد إلى زيارة الرئيس الفرنسي يوم غد الإثنين، وعلى منوال اليافطة التي رفعها في زيارة سابقة لزعيم الإليزيه إلى الجزائر (لا أهلاً ولا سهلاً بك –مسيو-ساركوزي)، يريد مخضرمو الأسرة الثورية ومعهم الجماهير النيل من الرجل والحيلولة دون نجاح محطته الجزائرية على خلفية تصريحاته النارية الرافضة لأي اعتذار عما اقترفته بلاده ضدّ مستعمرتها القديمة خلال 132 سنة.

ومنذ إلغاء قدوم المغني اليهودي ذي الأصول الجزائرية أنريكو ماسياس قبل سبع سنوات واستنساخ السيناريو ذاته الأسبوع الماضي، يتساءل خبراء الشأن السياسي عن المتوقع من زيارة ساركوزي جماهيريًا ورسميًا، وما هو الجديد الذي يمكن أن يأتي به الرجل، لإقناع نظرائه الجزائريين بصدق نوايا الطرف الفرنسي في الإليزيه؟ وهل بإمكان ساركوزي أن يذهب بعيدًا على نقيض أسلافه بالنسبة إلى الملف الجزائري؟

المجاهدون القدامى... رهان الاعتذار أولاً وأخيرًا

لا يستسيغ سائر مخضرمي الأسرة الثورية، حديث ساركوزي عن ’’نسج صداقة دون تقديم أي اعتذار"، ويرون باستحالة القفز على آلام الشعب الجزائري، وتضحيات مليون ونصف المليون من الشهداء، هذه فلسفة "المنظمة الجزائرية للمجاهدين" وهي تنظيم حكومي محلي يستوعب عموم المجاهدين القدامى الذين شاركوا في ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي (1954 – 1962)، وتتمتع هذه المنظمة بوزن كبير إذ تمثل لسان حال ما يعرف محليا بـ"الأسرة الثورية"، وهذه الأخيرة برئاسة الوزير الأسبق "السعيد عبادو"، تطالب بفتح النقاش مجددًا حول جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر، تبعًا لكون المحتل القديم نفذ محارق مهولة أبادت 8 آلاف قرية كاملة، وأودع مليوني جزائري في السجون، كما زرع 11 مليون لغم تسبّبت بمقتل 7328 جزائريًا، دون إغفال انتهاكات بالجملة كانت أفدحها سقوط 45 ألف شهيد في محرقة الثامن مايو 1945، وهي جرائم ترفض فرنسا (الرسمية) اليوم، الإعتذار عمّا اقترفته فرنسا (الكولونيالية) بالأمس.

منظمة المجاهدين الجزائرية التي تعاطت بحذر شديد مع زيارات سائر المسؤولين الفرنسيين للجزائر منذ زوبعة "القانون الفرنسي الممجد للاستعمار" الصادر في شتاء 2005، تتخذّ حذرًا مضاعفًا مع نيكولا ساركوزي، وذلك على خلفية تصريحاته الموصوفة بـ "الاستفزازية" و"المتجنية" على الذاكرة الجمعية الجزائرية، على غرار خطابه الأخير الذي أثار حفيظة العديد من الأطراف في الجزائر بعد أن ركز فيه على استحالة تقديم الاعتذار، وممّا قاله الصائفة الماضية ’’لم آت للجزائر لتقديم أي اعتذار، لأنني لا أقبل أن أتسبب في جرح مشاعر الفرنسيين’’، كما أكّد بـ "ثقة كبيرة في النفس"، "استحالة مطالبة الأبناء بالاعتذار عما اقترفه الآباء".

وإذا كان الأمين العام لمنظمة المجاهدين، استبق زيارة ساركوزي بتصريحات نارية ضمنّها عدم ترحيبه بالرئيس الفرنسي، ومساندته وزير المجاهدين الجزائري محمد شريف عباس في تصريحاته بشأن أصول ساركوزي (اليهودية)، وتصوره بأنّ "العلاقات بين الجزائر وفرنسا لم تبلغ مرحلة الندية"، فإنّ المتتبعين لتطورات الأحداث، لا يعتقدون بتأثير مثل هذه الخرجة على رحلة "ساركو" - كما يحلو لمواطنيه تسميته-، ويردّها هؤلاء إلى "برود" الرجل حيال الشق المتعلق بالاعتذار وتوابعه.

بهذا الصدد، يلاحظ الباحث الجزائري مصطفى فتحي المختص في العلاقات الجزائرية الفرنسية، إنّ ساركوزي اختار في أشدّ الفترات حرجًا في بلاده (إثر كشف النقاب عن 42 ألف جزائري قضوا في تجارب نووية فرنسية قبل نصف قرن، ناهيك عن 1200 مقبرة جماعية، فضلاً عن إخفائها أماكن دفن النفايات السامة)، فتجاهل الرجل الموقف وتعامل بلا مبالاة مع المسألة على ما تنطوي عليه من حساسية مفرطة، حيث قال غير آبه:" يجب الكف عن تسويد الماضي"، كما اعتبر:"أنّه إذا كان هناك من اعتذار، فإنّ أبناء الحركى أحق وأولى به" (أولئك من خانوا الجزائر في كفاحها)، ما فجّر ضجة كبرى في الجزائر، وانتهى محدثنا إلى كون:"شواهد كثيرة تؤكد إنّ الفرنسيين ليسوا مستعدين للتجاوب مع مطلب الاعتذار، خصوصًا في ولاية ساركوزي".

المجاهدون القدامى في الجزائر، واضحون ولا يقبلون اللف والدوران، حيث أجمعوا في تصريحات لـ"إيلاف": "لن نقبل سوى بالإعتذار"، كما يشدّد "السعيد عبادو": "لن نسكت في جميع الأحوال"، ما يعني احتمال تصعيد اللهجة ضدّ ساركوزي أثناء تواجده بالجزائر، ويبدو أنّ هؤلاء اختاروا الذهاب بعيدًا في طرحهم، إذ كشف مصطفى بودينة رئيس الجمعية الجزائرية لقدماء المحكوم عليهم بالاعدام، لـ"إيلاف"، عن استعداد تنظيمه رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن مواطنيه الذين أعدمتهم فرنسا إبان استعمارها للبلاد، وأفاد أنّ الأمر يتعلق بنحو 360 جزائريًا نفذ الاحتلال الفرنسي في حقهم حكم الاعدام بطرق تعسفية، علمًا أنّ 158 من هؤلاء قتلوا رميًا بالرصاص، بينما أعدم 202 آخرين بالمقصلة غداة إجراء محاكمات صورية ضدهم من قبل السلطة الكولونيالية وقتئذ".

الجماهير مصرة على اعتذار فرنسا عن جرائم الكولونيالية

وينظر الجزائريون بعين الريبة إلى شخص ساركوزي وسلوكياته، منذ كان وزيرا للداخلية في بلاده، لا سيما غداة عدم تحرجه من وصف أبناء المهاجرين بـ "الحثالة"، كما يبدي المجتمع المدني في الجزائر انزعاجًا من الزيارات المتكررة للرئيس الفرنسي، سيما بعد شروعه في طرد 350 ألف مهاجر جزائري لا يحوزون وثائق إلى بلدهم الأصلي.

ولا يفهم كثيرون في الجزائر كيف اعتذر بوتفليقة في زمن قياسي إلى فرنسا عن تصريحات أحد وزرائه، بينما لا تكترث باريس بإبدائها وظل الجزائريون يستبسلون لإجبار جيرانهم على تقديمه من دون نتيجة. ويذهب أكثر من وجه سياسي وإعلامي وحقوقي هناك، إلى اعتبار زيارة ساركوزي "منفعية على طول ومن جانب واحد"، ويجمع هؤلاء على أنّ خليفة شيراك آت لكسب عقود ’’امتيازية’’ تنجح برنامجه الذي وعد به مواطنيه.

المؤرخ الجزائري محمد القورصو في بيان له، دعا حكومة بلاده إلى إلغاء زيارة ساركوزي، ورأى أنّه يمكن للجزائر الاستغناء عن هذه الزيارة، طالما أنّ هناك عديد من الدول الأوروبية والآسيوية الراغبة في الاستثمار في الجزائر، كما حذّر المؤرخ المذكور، ممّا سمّاها "قبلة ساركوزي المسمومة"، مشيرًا إلى كون زعيم الإليزيه قادم إلى الجزائر من أجل الظفر بعقود استثمارية لا غير، بيد أنّ هذا الهدف "يصطدم برؤية استعمارية في الخطاب الرسمي الفرنسي"، مثلما قال.

وصرّح رئيس حزب "الجبهة الوطنية الجزائرية" موسى تواتي لـ"إيلاف"، بأنّه على خلفية حاجة فرنسا إلى الغاز الجزائري، بالتزامن مع انتهاء عقودها مع ممونيها بهذه المادة الحيوية، يسعى ساركوزي لتحقيق أمن بلاده الطاقوي عبر إبرام صفقة تقنع المسؤولين الجزائريين بعقد "تحالف" بين المجموعة البترولية "سوناطراك" المملوكة للحكومة، وشركة "غاز فرنسا" لقاء إلتزام باريس بدفع التعاون النووي بينهما الذي ظلّ مجمّدًا لفترة طويلة.

ويؤيّد الكاتب الصحافي سليم لعجايلية وجهة النظر هذه، ويجزم أنّ ساركوزي يريد الظفر بـ "عقود احتكارية طويلة المدى" تضمن تكثيف صادارت الجزائر من غازها المميّع نحو مركبات التكرير الفرنسية، حيث تفيد المؤشرات الاقتصادية الجديدة، أن فرنسا تحتاج إلى تحقيق أهدافها، رفع مؤشر نموها إلى حدود 3,3 في المئة سنويًا.

ويشير سليم لعجايلية الى أنّ ساركوزي خلال حملته الدعائية لسباق الرئاسة الفرنسية، ظلّ يتباهى بكونه أنقذ شركة "ألستروم" التي كانت مهددة بشبح الإفلاس، بعدما نجح في تمكينها من الحصول على صفقات ضخمة في الجزائر، بالتزامن مع تفاخره بكونه عرّاب قانون تمجيد الاستعمار، وإشهاره رفضه القاطع لأي اعتراف فرنسي بجرائم الكولونيالية المرتكبة في الجزائر.

من جانبه، يلاحظ الحقوقي "أبو جمعة غشير"، إنّ فرنسا سلمت بعد نصف قرن، خرائط الألغام التي زرعها جيشها في الجزائر، بعدما قتلت آلاف الأبرياء، وصنعت مآسي أبناء الجزائر، إذ تسببت في إعاقات وإصابات جسدية لمئات الآخرين منذ استقلال البلاد في يوليو/تموز 1962.

من جهتها، ترى المحامية بختة دحمانية أنّ زيارة ساركوزي للجزائر وإن حملت غزلاً جديدًا فإنها تبدو أبعد ما تكون عن محطة لإذابة كتلة الجليد بين البلدين، وهي بحسبها "أقرب ما تكون إلى زيارة لطلب "تأشيرة" جزائرية"، مستبعدة أن يشهد سلوك الزعيم الفرنسي تجاه الجزائر تحولاً إيجابيًا، بعدما أدار الرجل ظهره لمعاهدة الصداقة التي سعى سلفه لتجسيدها.

وأظهر استطلاع حديث للرأي في الجزائر، إنّ غالبية الشارع المحلي يؤيد أولوية اعتذار فرنسا الرسمية عن جرائم الكولونيالية، قبل الخوض في أي من مسارات التقارب، وحمل استطلاع أجراه مركز "الخبر" للدراسات، تمسك السواد الأعظم من الجزائريين بمبدأ اعتذار باريس عمّا خلّفه احتلالها للجزائر من تبعات بشعة على مدار 132 سنة كاملة.

هذا ما تريده الحكومة...

بالنسبة إلى الحكومة الجزائرية، ثمة عنوان واحد للزيارة " تكريس شراكة استيراتجية استثنائية"، وهي تعوّل على مضاعفة حجم الاستثمارات الفرنسية في بلادها، كبديل لمشروع معاهدة الصداقة المثير للجدل الذي تعثر إنجازه على خلفية ملفات عالقة بين البلدين تتصل بالذاكرة والتاريخ.

والمهمّ بالنسبة إلى السلطة الجزائرية يكمن في "إعطاء محتوى ملموس للشراكة الثنائية عبر الانتصار لخريطة طريق طموحة، وواقعية"، وقد حدّد مسؤول بارز في الحكومة الجزائرية رهانات بلاده مع باريس في: "تكوين الكوادر، المبادلات الاقتصادية والاستثمارات، الطاقة، التنسيق العسكري والأمني، و تحرير حركة تنقل الأشخاص بين البلدين".

ويأتي هذا التصور الرسمي الجديد للعلاقات مع فرنسا، بعد سنتين من ’’تشبث" السلطات العليا في البلاد، بضرورة الاعتذار قبل تحقيق أي تقارب، بيد أنّ السلطات راجعت سلم أولوياتها على ما يبدو، وهو ما يفسّر مسارعة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، إلى القول إنّ تصريحات وزير المجاهدين القدامى محمد شريف عباس –المثيرة للجدل- "لا تلزم بلاده ولا تعكس في شيء موقف الجزائر"، حتى وإن كان رئيس الوزراء "عبد العزيز بلخادم"، يجزم إنّ "طي صفحة الماضي رهن "اعتذار فرنسي" عن جرائم استعمارها.

ومعروف أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تبنى خطابًا متشددًا إزاء باريس منذ ربيع 2005، حيث اشترط على الطرف الفرنسي الاعتراف الرسمي بأخطائه في حق الشعب الجزائري وتقديم اعتذار رسمي عن جرائم الحرب التي ارتكبها.

بالمقابل، ترفض أوساط جزائرية أن يكون مشروع "الاتحاد المتوسطي" الذي يرتقب أن يركّز ساركوزي عليه في جولته المقبلة، ترفض هذه الأوساط أن يتخذ الاتحاد المذكور كـ"غطاء لاستخدام الجزائر كمجرد "سوق استهلاكية" مهمتها ضمان أمن سلامة دول جنوب أوروبا ضد خطر الإرهاب والهجرة السرية، مستندة إلى النتائج الهزيلة التي تمخضت عن مسار برشلونة، كما تعتبر الأوساط ذاتها، أنّ فتح حقول النفط الجزائرية على مصراعيها أمام فرنسا مقابل مساعدات الأخيرة في المجال النووي السلمي، هي "صفقة غير متكافئة"، وتقدّر أنّ "الفكرة لا جدوى منها، وغير قابلة للتحقيق لا اقتصاديًا ولا سياسيًا’’.

مصادر
ايلاف