تعتبر عبارة "الديمقراطية" هي العبارة الأكثر دفعاً بالولايات المتحدة الأميركية إلى المآزق، من بين قلة من المصطلحات والعبارات تتكرر في قاموس خطابة البيت الأبيض. ويتمسك الخطاب الرسمي الصادر عن واشنطن، بأن الديمقراطية نعمةٌ طالما تطلّع العالم كله إلى الحصول عليها، وأن غيابها في أي بلد وتحت أي ظرف كان، لا يمكن تفسيره إلا بسيادة القهر والحجْر على الحريات فيه. ومما لا ريب فيه أن لعبارة "الديمقراطية" من القوة والثقل والإيجابية، ما أرغم حتى أكثر الأنظمة شمولية وعنصرية وفساداً واستبداداً على "التمسُّح" بها من باب التظاهر، لا أكثر. وعلى رغم صحة الاعتقاد العام بخير الديمقراطية ونِعمها هنا في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أنه ليس ثمة اتفاق على الكيفية التي ينبغي التعامل بها مع الدول التي تفتقر إلى هذه النعمة. وها هم الأميركيون ينقسمون على أنفسهم اليوم، حول تحقيق ذلك الحلم الذي طالما راود الآباء المؤسسين لأميركا في عام 1776، بأن تكون بلادهم قلعة لنشر الديمقراطية على نطاق العالم بأسره.

ففي جانب من هذا الخلاف، هناك من يتشدد في موقفه الداعي إلى دور أميركا القيادي في نشر الديمقراطية عالمياً. بينما يقف في المعسكر الآخر، أولئك الذين يعتقدون أن على الولايات المتحدة الأميركية أن تعمل على خدمة مصالحها المادية والاستراتيجية، مثلما فعلت بقية الدول الأخرى فيما مضى، وأنه كلما قل الحديث عن أجندة نشر الديمقراطية في الخارج، كلما كان ذلك خيراً لأميركا ولمواطنيها.

وفي الحقيقة، فقد تكررت الحالات التي تحالفت فيها واشنطن مع أكثر طغاة الأرض عداءً للديمقراطية في كل من أميركا اللاتينية، وكذلك مع الأنظمة العسكرية الشمولية في آسيا، ومع الحكومات القهرية في منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب إقامتها لعلاقات تحالف وتعاون مع الأنظمة الفاسدة المنتشرة على امتداد المعمورة كلها. وكان دافعها في كل ذلك بالطبع هو خدمة مصالحها المادية والاستراتيجية المذكورة، شأنها في ذلك شأن الكثير من القوى والدول الأخرى.

الوهم الأكبر، في واقع الأمر، يتمثل في الاعتقاد بوجود تعريف أزلي وثابت للديمقراطية، وأنه صالح لكافة الأزمنة والأمكنة.

وبالطبع تثير مثل هذه التحالفات مع الأنظمة القمعية المعادية للديمقراطية، احتجاج الكثيرين وقولهم إنه لا ينجم عنها شيء في نهاية الأمر، سوى إقصاء الشعوب التي يقع عليها عبء التحالفات هذه ونتائجها الوخيمة. ويحتج المحتجُّون بالقول إنه وفيما لو كان لزاماً على أميركا أن تقف إلى جانب أحد طرفي النزاع في الدول التي تفتقر إلى الديمقراطية والحريات، فإنه يتعين عليها الوقوف دائماً إلى صف الشعوب والأمم المتطلعة إلى استبدال أنظمتها الاستبدادية الحاكمة، بأخرى ديمقراطية ولائقة.

وبهذا نصل إلى تناول الفئة الثالثة المتمثلة في مجموعة "الديمقراطيين الغلاة" أو "الغلاة المتدثرين بثياب الديمقراطية" الذين يعتقدون ليس بإمكان، وإنما بضرورة، فرض الديمقراطية فرضاً على الشعوب التي تفتقر إليها، أي بتصديرها لها من خارج الحدود. وبعد أن التحق الرئيس جورج بوش بهذه الفئة الأخيرة في أعقاب هجمات 11/9، قطع على نفسه عهداً بنشر الديمقراطية في كل من أفغانستان والعراق، اللذين كانا في قبضة نظامين قهريين باطشين. وكما نعلم فقد حدث تغيير النظامين السابقين في كلتا الدولتين بفوهات مدافع وبنادق الجنود الأميركيين وقوات التحالف الدولي. وبما أن بوش قد توصل إلى قناعة لا تتزعزع بأن كلاً من العراق وأفغانستان يشكلان تهديداً للأمن الأميركي والدولي معاً، فقد كان رأيه أن السبيل الوحيد لتجنب هذا الخطر، هو تغيير نظاميهما الحاكمين وفرض الديمقراطية فيهما بالقوة. فذلك هو الخيار الوحيد لتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من الخطر والمهددات الأمنية.

لكنْ، في إطار مناقشتنا لنزعة تسويق الديمقراطية هذه والترويج لها بالقوة، تتكشف لنا ثلاثة أوهام خاطئة في هذا الاعتقاد. أولها إمكانية نشر الديمقراطية أو غرسها حرفياً في ثقافة أي بلد كان وتحت كل الظروف والأوقات. وثانيها أن الدول التي تجري فيها العمليات الانتخابية، هي دول ديمقراطية أو حرة بالضرورة. أما الوهم الثالث والأخير -بل الأكبر في واقع الأمر- فيتمثل في الاعتقاد بوجود تعريف أزلي وثابت للديمقراطية، وأنه صالح لكافة الأزمنة والعصور.

وفي مناقشتنا للوهم الأول، فقد تمكنت إدارة بوش من دفع العراقيين إلى إجراء انتخابات عامة عقب سقوط نظام صدام حسين، وتشكيل حكومة وطنية منتخبة في وقت قصير نسبياً. ولكن علينا أن نذكر أن الطاغية صدام حسين نفسه كان قد تدثر بثياب الديمقراطية، وأجرى انتخابات عامة في بلاده عام 2002، فاز فيها بنسبة 100 في المئة من أصوات الناخبين، باعتباره مرشحاً وحيداً فيها. والملاحظ أن صدام حسين لم يهدد علناً أحداً من مواطنيه بعواقب ما سيحل به في حال التصويت ضده في تلك الانتخابات. وفي معرض مناهضتها للقول بعدم إمكانية تصدير الديمقراطية إلى الشعوب والأمم من الخارج، كثيراً ما قارنت إدارة بوش بين مشروع تحولها الديمقراطي في العراق، وما حدث من قبل في تحويل كل من اليابان وكوريا الجنوبية إلى نظامين ديمقراطيين. ولكن ما يلزم التنبيه إليه في دحض هذه المقارنة، أن أياً من اليابان وكوريا لم تكن بذاك الحطام الداخلي الذي حل بأفغانستان، ولا هما كانتا على كل هذا القدر من الدموية والانقسام الطائفي السائدين في عراق ما بعد الحرب.

أما في تفنيد الوهم الثاني، فنكتفي بالقول إن مجرد إجراء الانتخابات العامة، لا يشكل ضمانة لتحول بلد ما نحو الديمقراطية، طالما أن هذا التحول لم يحم النساء والأقليات الإثنية والأعضاء المنتمين إلى طوائف دينية بعينها وغيرهم، من سوء المعاملة التي يتعرضون لها في حال عدم انصياعهم لإرادة الأغلبية. وهذا هو ما يحدث الآن في العراق.

وبهذا نصل إلى دحض الوهم الثالث والأخير المتعلق بالاعتقاد بوجود تعريف أزلي ثابت لمفهوم الديمقراطية في كافة الأزمنة والأمكنة. وهنا يلزم التأكيد على حقيقة أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، الذي يشهد تسارعاً هائلاً في التطور التكنولوجي، وتزداد فيه أعداد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10-12 عاماً، من الذين يتفوقون في معارفهم وخبراتهم التكنولوجية المتقدمة على آبائهم أنفسهم. وفي هذا ما يحدث تغييراً جوهرياً على مفهوم الديمقراطية وممارستها بكل تأكيد. بل الذي نتوقعه وفق هذا التحول المتسارع للفهم، ألا يظل تعريفنا للديمقراطية اليوم، كما هو خلال السنوات المقبلة الحاشدة بالتطورات والمفاجآت.

* كاتب أميركي متخصص في شؤون المستقبليات