بعد ستين سنة من قرار الأمم المتحدة تقسيم ارض إسرائيل إلى دولتين قوميتين- واحدة يهودية وأخرى عربية، باسم حق تقرير المصير، ترفض دوائر متسعة، وباسم الديموقراطية، التقسيم.
حل الدولتين أكل الدهر عليه وشرب. ليس فقط لان سياسة التقسيم غير ممكنة، بل أيضا لأنه غير مرغوب فيها. الزعم بان دولة يهودية، لمجرد كونها يهودية لا يمكنها أن تكون ديموقراطية، هزيل لأنه يستند إلى الفرضية بأن العلاقة بين اليهودية و’الديموقراطية’ تختلف بشكل جوهري عن العلاقة بين اليونانية والديموقراطية، أو بين السويدية والديموقراطية. عمليا، الفوارق بين إسرائيل والأمم الأخرى- بما في ذلك العلاقة بالدين وقانون العودة وغيرها من التفاصيل الأخرى - اقل بكثير مما درج عليه التفكير. لكن، ليس فقط زعم التضارب هزيل، بل أيضا الحل الذي يكثرون من طرحه للتضارب هزيل. ولعل الهزل ليست كلمة على ما يكفي من الحدة. فمن أجل الالتفاف على التشبيه بدول قومية أخرى، تشبهنا كما أسلفنا، يقترحون النموذج الاستثنائي، نموذج فرنسا. في فرنسا القومية ليست ’أثنية’ بل ’مدنية’. معظم الدول القومية هي أكثر انسجاما من الناحية الاثنية من إسرائيل، التي هي خليط من أبناء ’الاثنيات’ المختلفة. ولكن ماهية القومية المدنية بالذات واضحة جدا: القومية تطابق المدنية. فرنسا هي ’دولة كل مواطنيها’، لأنه من اللحظة التي يحصل فيها الإنسان على المواطنة الفرنسية يصبح عضوا في القومية الفرنسية، وكل المواطنين شركاء متساوون في الهوية القومية للدولة. إذا ما تبنت إسرائيل هذا النموذج، فستكف عن أن تكون يهودية وتبدأ في أن تكون ’إسرائيلية’. وهي ستكون ديموقراطية حقا، وتنتمي لكل مواطنيها، وليس فقط رسميا، من خلال حق التصويت، بل وأيضا عاطفيا ومن ناحية قدرة التماثل.
ما معنى الأمر من ناحية الأقلية العربية؟ خلق هوية واحدة في دولة ديموقراطية سيفعل هنا ما فعله في فرنسا: فرضت ثقافة الأغلبية على الأقليات. فرنسا لا تعترف بالمكانة للأقليات القومية في داخلها، لا تعترف بلغات رسمية غير الفرنسية، لا تعترف بحق تطوير الثقافة التي ليست فرنسية. من أجل أن تكون دولة كل مواطنيها ينبغي لإسرائيل أن تفرض لغة واحدة على الجميع (العبرية)، إلغاء التعددية في التعليم وفرض ثقافة واحدة (إسرائيلية)، حظر، مثلما فعلت فرنسا، تعابير هوية منفصلة (مثل غطاء الرأس الإسلامي أو اليهودي) في المدارس العامة. باختصار، سيتعين على إسرائيل أن تفرض، مثل فرنسا، وحدانية الثقافة. وليس مصادفة أن فرنسا لا تفي بمعايير ’ميثاق الإطار لحماية الأقليات القومية’، الذي وضعه الاتحاد الأوروبي (وبالفعل، رفضت التوقيع على الميثاق على مدى زمن ما).
تبني النموذج المدني- المواطنة معناه اندماج مفروض، وإلغاء حق الأقلية في هوية قومية خاصة بها. وطالما لا يريد عرب إسرائيل الاندماج في الأغلبية وتبني ثقافتها، عاداتها وهويتها، فذلك يغير في الأمر قليلا جدا.. كيف تسمى الهوية القومية - يهودية، إسرائيلية، كنعانية، أو هندوباكستانية - فهم يريدون أن يحموا أنفسهم منها لأنها ستنطوي على تنازل عن هويتهم.
مؤيدو الحل الفرنسي لدولة كل مواطنيها يذكرون بهذا المفهوم ليس المناهضين للاستعمار الجديد، بل الاستعماريين الفرنسيين القدامى: لا يهمهم ماذا يريد ’الأصليون’. فهم سيعلمون ’الأصليين’ ما هو الشكل السليم لتقرير المصير بالنسبة اليهم. تقرير مصير فرنسي بالطبع. كم من المفارقة في أنه بعد ستين سنة من إزالة الاستعمار، إسرائيل هي الأخرى انضمت أخيرا إلى المسيرة وخرجت من غزة، وجدوا عندنا من السليم إحياء الاستعمار الفرنسي بل وتحت ظل الحرص على حقوق الفرد.

مصادر
القبس (الكويت)