لم تكن طريق سورية الى أنابوليس سهلة. إذ تطلبت مشاركتها في ذلك الاجتماع الدولي الكثير من الحسابات الدقيقة بين الربح والخسارة وبين «إغراءات الأعداء» و «تحفظات الحلفاء» والاختراقات الديبلوماسية المتبادلة في بحار الأزمات الموقوتة في الشرق الأوسط.

بدأ الطرفان السوري والأميركي من سقف عال، فعندما حصرت واشنطن قائمة المدعويين الى الاجتماع الدولي بـ «اولئك الذين ينبذون التطرف والإرهاب» ويدعمون «الاعتدال»، قابلت دمشق ذلك بإعلان نائب الرئيس فاروق الشرع في منتصب آب (أغسطس) ان مصير مؤتمر كهذا هو «الفشل».

انتقلت الأطراف بعدها الى الكلام الجدي المتعددة الأطراف. وزير الخارجية وليد المعلم تغيب عن اجتماع لجنة تفعيل مبادرة السلام العربية مع «الرباعية الدولية» في نيويورك في أيلول (سبتمبر) الماضي. لكن الدول العربية الأساسية سعت لدى واشنطن الى أن يكون الاجتماع الدولي «متضمناً السلام الشامل على جميع المسارات التفاوضية» السوري واللبناني والفلسطيني مع «إعطاء الأولوية للمسار الفلسطيني».

كان صعباً على سورية ان تحضر مؤتمراً كهذا، خصوصاً بعد الغارة الإسرائيلية على شمال شرقي البلاد في بداية أيلول، ما لم تكن الجولان في اجندة المؤتمر. وقال الرئيس بشار الأسد هذا بوضوح بعد أيام على الغارة: «ما لم تكن الجولان على الطاولة، فلن تشارك سورية في المؤتمر».

كان هذا الموقف بمثابة السقف الذي استظلت به الديبلوماسية السورية في اتصالاتها الدولية. في نيويورك، كان جميع محاوري المعلم من غربيين وعرب، يحضون دمشق على الحضور. وفعل الأمر ذاته المسؤولون الأتراك لدى زيارة الأسد أنقرة في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وكان الجواب السوري هو ذاته وإن بلغة مختلفة: تشارك سورية في المؤتمر الدولي إذا وضعت الجولان على الطاولة.

وتكرر ذلك في لقاءات المعلم على هامش اجتماع وزراء خارجية دول جوار العراق الموسع في اسطنبول في بداية الشهر الماضي. وباعتبار ان هناك إقراراً من العسكريين الأميركيين ان «تحسناً ملحوظاً» طرأ على الإجراءات الأمنية لضبط الحدود السورية – العراقية، ما أدى الى تراجع عدد المتسللين مع تطور في علاقة دمشق مع الحكومة العراقية، فإن عنصراً عاجلاً أضيف الى «اجندة» الحوار السوري - الغربي، هو الأزمة في لبنان.

لم يكن الربط بين الانتخابات الرئاسية اللبنانية وحضور انابوليس زمنياً وحسب، بل صار الربط جوهرياً في المقاربة الشاملة لأزمات الشرق الأوسط: من جهة، تراكم إدراك واسع عبر السنوات الثلاث الماضية بأن سياسة عزل سورية كانت خاطئة ودفعت دمشق أكثر الى تعميق علاقاتها مع إيران، فضلاً عن العلاقة الوطيدة مع «حزب الله» و «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، بحيث أوجد الترابط تعقيدات إضافية في الشرق الأوسط وأزماته. ومن جهة ثانية، حصل إدراك غربي بأن المطالبة السورية باستعادة الجولان «مطلب شرعي لا يمكن تجاهله» خصوصاً ان دمشق حافظت، أو رفعت، من حضوره في الخطاب الرسمي في الفترة الأخيرة.

كما أثبتت الوقائع في السنوات الثلاث الأخيرة ان النفوذ السوري في لبنان متجذر وان خروج القوات الأمنية والعسكرية في نيسان (ابريل) 2005 لا يعني انحسار النفوذ وان تغيرت وسائله وتكتيكاته.

يضاف الى ذلك، ان إدراكاً سورياً بدأ يتنامى ان «لا غنى لدمشق عن الإجماع العربي» خصوصاً أنها مقبلة على استضافة القمة العربية في ربيع العام المقبل. ولا شك في أن قراءة متأنية لردود الفعل العربية والإيرانية على الغارة الإسرائيلية، ساهمت في ترتيب الخيارات والأولوية.

ويجوز القول إن أحد الاستناجات كان ضرورة «عدم استفزاز» ادارة الرئيس جورج بوش في السنة الأخيرة من ولايتها وان كان الأمل أن تغير سياساتها وان تبدي اهتماماً جوهرياً في تحقيق السلام ضئيل، وضرورة تمهيد الأرضية لفتح حوار معمق لدى وصول إدارة جديدة الى البيت الأبيض في بداية 2009.

على هذه الأسس باتت الصورة شبه واضحة في الأسابيع الأخيرة: وضع الجولان على جدول أعمال المؤتمر الدولي يشكل حلاً مناسباً لجميع الأطراف. إذ يشكل «حافزاً» لسورية كي تلعب دوراً إيجابياً في حل الأزمة اللبنانية. وهو يعطي شرعية فعلية لحضور سورية هذا المؤتمر على رغم تحفظات جميع حلفائها.

تدرك دمشق ان المؤتمر لن يؤدي الى تقدم ملموس نحو السلام. وهي تدرك الأسباب الفعلية لعقده. لكن في الوقت نفسه، كان صعباً عليها ان تغيب عن مؤتمر دولي للصراع العربي - الإسرائيلي. وأن تقبل بتغيب الجولان. ان ينطلق «قطار السلام» من دون أن يضم قضية وطنية. كانت الخيارات صعبة. من جهة، شنت إيران و «حماس» و «حزب الله» و «الجهاد» انتقادات لاذعة لأنابوليس. ومن جهة أخرى، فان الغياب يعتبر إشكالية لأنه يعني غياب الجولان عن عملية سياسية دولية كما يعني تكريس دمشق موقعاً لها بعيداً من المجتمع الدولي ومكتفياً بـ «الفلك الإيراني».

هذه الحسابات وغيرها كانت في خلفية التفكير عند اتخاذ القرار بحضور أنابوليس. وفي النتيجة، صدر قرار قيادي بأن يمثل سورية نائب وزير الخارجية كـ «حل وسط» بين تكليف السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى أو وزير الخارجية بالتمثيل. الهدف من تمثيل منتصف الطريق هو توسيع الخيارات وليس تضييقها ولا حسمها. وشكل هذا القرار خلاصة الحسابات الدقيقة بين ضفتي «البراغماتية» و «المبدئية» ووضعت القضية الوطنية في رأس الأولويات: الجولان.

هناك من يقول ان صفقة أبرمت بين الأميركيين والسوريين مقارناً بين ما حصل الآن بانضمام سورية الى «التحالف الدولي» لإخراج الرئيس السابق صدام حسين من الكويت «مقابل» إنهاء سورية حركة الجنرال ميشال عون واطلاق الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش عملية سلام في الشرق الأوسط. وجه المقارنة يقوم على أساس ان «الجائزة» لسورية ستكون في لبنان بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً و «الثمن» هو المشاركة في «حلف دولي» ضد إيران أو الابتعاد عن طهران. والمظلة هي قضية الجولان، كما كانت الحال بإطلاق عملية السلام في مؤتمر مدريد العام 1991.

لكن واقع الحال يدل الى ظروف مختلفة والحديث عن «صفقة» ليس صحيحاً لا في واشنطن ولا في دمشق. ما حصل هو رسم أطراف دولية مثل فرنسا وإقليمية مثل الأردن «خريطة طريق» تتضمن اخذ مصالح سورية الوطنية في الحسبان، «مقابل» إقدام دمشق على سياسات لا تختلف في العمق مع المصلحة الوطنية، بل تتبع أسلوباً مختلفاً. وما حصل أيضاً، هو إقدام كل طرف على خطوات صغيرة ضمن الصورة الأشمل.

لكن الأهم هو ما سيحصل لاحقاً. وما ستقوم به سورية في «اليوم التالي» لأنابوليس والمبادرات التي سيقوم بها الأوروبيون والأميركيون.

العلاقة المميزة لسورية مع إيران من دون «إجماع عربي» هي عبء ثقيل. لكن هذه العلاقة تصبح ميزة استراتيجية في ظل العمق العربي. وبالتالي، سيكون مصيباً إقدام دمشق على مبادرة نحو طهران المنزعجة من سفر سورية الى أنابوليس على رغم الهتافات التي قيلت «عفوياً» أمام مقر السفارة الأردنية في طهران. التحالف مع «حماس» و «الجهاد» يخدم القضية الفلسطينية بالتنسيق والتشاور في شأن كيفية تعزيز الوحدة الوطنية وتكريس الاتجاه البراغماتي، ما يتطلب إطلاق مبادرة أخرى لحوار بين «حماس» و «فتح» لأن اتفاق السلام يحتاج الى إجماع والمفاوضات لا تحصل في ظل الانقسام.
جانب من مؤتمر آنابوليس

وينسحب الأمر ذاته على «حزب الله» في لبنان. فالعلاقة ليست قائمة على تبعية طرف لآخر. إنها قائمة على تصور سياسي يدرك كل طرف فيه أهمية الآخر بالنسبة إليه. وما يهم سورية حالياً، هو انتخاب رئيس لبناني توافقي غير معاد لها، بل يؤمن بأهمية العلاقة الثنائية.

أما عربياً، فإن الفرصة مناسبة للإقدام على الكثير من الخطوات السياسية نحو دمشق. يجب ألاّ تتكرر تجربة ربيع العام الماضي. شاركت سورية في القمة العربية وساهمت في إنجاحها، ثم لم تحصل متابعة. عادت سورية الى «الإجماع العربي» لكن لم يقابلها هذا الإجماع بالكثير من المبادرات المستقبلة، بل بقي أسير الماضي.

وينطبق الأمر ذاته على الأوروبيين والأميركيين. إذ كانت العلاقات شهدت تحسناً رمزياً في الأشهر الماضية بعد لقاء المعلم وزراء أوروبيين وغربيين. لكن المشكلة كانت ان الغرب كان يتوقع من سورية ان تحدث نقلة نوعية تقطع مع الماضي بمجرد ان زار وزير اوروبي دمشق او بمجرد ان التقت الوزيرة كوندوليزا رايس المعلم.

لا، فالتقدم يحصل بالانخراط وبعملية الحوار المتواصل. وكما لم يكن قرار المشاركة في أنابوليس ليس سهلاً وتطلب الكثير من الحنكة الديبلوماسية، فإن المرحلة المقبلة أشد تعقيداً وحساسية. الجميع في حاجة الى الإبحار في الحسابات المتناقضة والشكوك المتبادلة.

سوء التقدير واختلاف التوقعات خطر على «خريطة الطريق» الجديدة كما هي الحال مع رمي الأوراق قبل أوانها. دول عدة وعدت دمشق بالكثير من «الحوافز» السياسية والاقتصادية مثل «تحريك» اتفاق الشراكة مع أوروبا ورفع مستوى الحوار السياسي والقطيعة النهائية مع سياسة العزل. لقد حان الوقت لترجمة الأقوال الى أفعال والوعود الى سياسات كي تتأكد دمشق من صوابية قرار الحضور في أنابوليس ولئلا تتكرر تجربة الانتكاسات السابقة والتراجعات بعد انخراط قصير.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)