سيمضي وقت وزفّة أنابوليس مدعاة تجاذب سيظل، وفق الدارج الشعبي، حديثاً "لا يملّ"! ولا يمل هنا، هي بمعناها السلبي أو الساخر لا الإيجابي، فالكارنفال الإعلامي مثار الجدل الدائر راهناً وإلى حين، يراد له عمر له أطول تداعيات صوتية ممكنة... أي لفترة زمنية تطول لتتعدى حتى أوان انتهاء ولاية الرئيس بوش الآيلة إلى زوال بعد عام... ولو قيّد لبوش وأولمرت النطق بفصيح لغة الضاد لتمثلا في تسامرهما الثنائي الخاص ببيت المتنبي الشهير:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر القوم جرّاها ويختصموا

ما يعنينا هنا، من هؤلاء السهارى المختصمين فحسب، هم العرب تحديداً، والذين، سواء من حضر المحفل منهم أو من لم يحضر أو يدعى إليه، أاتفقوا مجازاً، أم اختصموا واختلفوا كما هو الدارج، فهم جميعاً على اختلاف المواقع أو المواقف والمشارب أو درجات "الاعتدال" و"التطرف"، قد أدركوا عشية انفضاض سامر أنابوليس، أن الجبل البوشي لم يتمخض صخبه إلا عن حصيلة ما ثم سواها، لعلها خيبت آمال الآملين والواهمين من هؤلاء جميعاً، إلا وهي ما يستحب كنايته ب"إطلاق العملية التفاوضية"، والتي قيل أنها قد أطلقت، لكن بعد أن تم قصقصة ريشها الذي جاهدت سلطة رام الله للإبقاء ولو على قليلة دون جدوى... آخر ريشها المنتوف هو حذف أي ذكر لما يدعى "قضايا الوضع النهائي" من مما سميت بوثيقة "بيان التفاهم المشترك" الختامية، بل ومسارعة الإسرائيليين للتشكيك بجدوى هذه العملية المنتوفة من أساسها، وكذا الأمر بجدول أعمالها ومهلتها الزمنية الواردين في نصها ، ثم شكوى فلسطينيي أنابوليس أنفسهم من خلوها من أي مضمون عملي...

يقول أولمرت: "أريد تذكيركم بإننا قلنا سنبذل كل جهد للوصول لإتفاق بحلول 2008، ولكننا لم نلتزم باستكمال الوصول لاتفاق بحلول 2008"... لم يلتزم!

بيد أن هذه العتيدة المدعوة بالوثيقة تركّّز على أولوية البند الأول ممن اكتفت باعتبارها المرجعية الأساس للعملية التفاوضية برمتها، أي خارطة الطريق، إلا وهو التزامات سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطيني المحدود الأمنية تجاه الاحتلال، وعلى رأسها دائماً "محاربة الإرهاب" الفلسطيني، أي قمع المقاومين والقضاء على المقاومة!

...هذا بالإضافة إلى كونها قد غابت عنها قرارات ما تسمى الشرعية الدولية، وتجاهلت المحروسة المعروفة بالمبادرة العربية... وتقول الوثيقة:
"ستراقب الولايات المتحدة وتحكم على مدى وفاء كلٍ من الطرفين بالتعهدات الخاصة بخارطة الطريق. تنفيذ معاهدة السلام المستقبلية سيكون متوقفاً على تنفيذ خارطة الطريق وفق ما تحكم به الولايات المتحدة"!

ولأنه، كما يقول المثل الشعبي "حاميها حراميها"، تم تعيين القائد الأمريكي السابق لحلف الأطلسي الجنرال جيمس جونز مشرفاً على ميدان معركة العملية التفاوضية المراد لها أن تكون المديدة الآجال وذات المرجعية الأمنية، أو على آلية الشروع في تنفيذ المراد من هذه الخارطة، التي ذهبت التحفظات الشارونية المعروفة بجوهرها، وأبقت على سمتها الأمنية المطلوبة... ولكون الأمن أولويتها، عين الجنرال موفداً خاصاً بشؤون الأمن في الشرق الأوسط، وفسّر هذا لاحقاً بأنه إنما ل"مساعدة الفلسطينيين "على وضع مفهوم أفضل لأمن "دولتهم "، هذه التي هي في علم الغيب والتي سيجري التفاوض المفترض على شرفها، الأمر الذي حدا بالمعلقين الإسرائيليين لأن يستنتجوا مجمعين على أن أنابوليس قد "أعطت إشارة الضوء لبدء شن عملية عسكرية إسرائيلية على قطاع غزة بهدف الإطاحة بحماس كشرط لبدء المفاوضات"... لعل إطلاق هذه الإشارة سيكون أول النتائج الفورية لمحفل التقاط الصور التذكارية الصاخب المنفض!

واستطراداً، علينا أن لا ننسى مشاهد توالي سقوط الشهداء في ساحات مواجهة اعتداءات الاحتلال، التي جرت بالتوازي مع التقاط هذه الصور في أنابوليس... ما حدث ويحدث في غزة... ومناظر شرطة "الدولة" الموعودة تقمع شعبها المتظاهر ضد كرنفال أنابوليس التصفوي، أو الخطر الداهم الأحدث على قضيته التي هي قيد التصفية... في الخليل... هنا أيضاً سال الدم الفلسطيني على يد شرطة السلطة، كما سال هناك على يد جيش الاحتلال في غزة!

كان أنابوليس محفلاً لإيجاد مخارج ما منشودة لأزمات داخلية أمريكية أولاً، ثم إسرائيلية ثانياً، وفلسطينية سلطوية ثالثاً، ستتوالى تداعيات نتائجه على الحالتين الفلسطينية والعربية، وسيسجل الزمن أنه الأخطر كمحطة تصفوية على قضية الأمة العربية في فلسطين منذ كامب ديفيد، هذا من جهة، ومن أخرى، هذا إن رمنا بدلاً من التفصيل الإيجاز، فهو نقطة أو محطة شاءها الإسرائيليون وخطها وتعهدها الأمريكان للبدء في تحضير المسرح التصفوي لهذه القضية لنقله ترتكز على أثافٍ ثلاث:

أولها، شطب حق العودة، جوهر القضية الفلسطينية وروحها، وثانيها، اعتراف العرب، بدءاً بالفلسطينيين، بما يدعى "يهودية الدولة"، أي ضمناً، وإلى جانب شطب حق العودة، التمهيد أو التشريع للترانسفير، أو التخلص من الديموغرافية الفلسطينية في المحتل قبل العام 1948، وثالثها، التطبيع مع العرب، والذي من أجله وبرسمه جلبت قافلةً طويلة منهم تعدادها 16 دولة إلى أنابوليس... وكل ذلك مقابل التفاوض على التفاوض، أو البدء في مسيرة مئة عام من التفاوض، كما قلت في مقالي السابق. وبما أنني كنت فيه، وقد سبق نشرة لقاء أنابوليس بايام قليلة، قد فصّلت في هذه الاستهدافات الثلاث، فسأكتفي هنا، وقد أنفض المولد، بالتذكير، ونحن أزاء مجمل المشهد الكرنفالي، على التركيز على الأداء الاستعراضي لنجومه الثلاثة: بوش، أولمرت، أبو مازن... كيف تناغم الأولان وغرّد الأخير وحيداً لكن داخل السرب... قال بوش:
السلام في المنطقة لن يحل إلا "بتهميش المتطرفين وهزيمتهم"... بالتوازي مع التطبيع، حيث "على كل الدول العربية إظهار دعمها القوى لحكومة الرئيس عباس، والتقرب من إسرائيل، والعمل على تطبيع العلاقات معها، والتأكيد من خلال القول والفعل على أنهم يؤمنون بأن لإسرائيل وللإسرائيليين منزلاً دائماً في الشرق الأوسط"، وحيث اختصر الصراع بالتالي:
"الفلسطينيون يريدون مستقبلاً أفضل لأبنائهم... والإسرائيليون يريدون أن يتمكن أبنائهم من الصعود إلى الحافلة والذهاب إلى المدرسة من دون خوف من الانتحاريين..."، وأعلن أن "الولايات المتحدة ستساعد الفلسطينيين على قيام مؤسساتهم الحرة... وستبقى على التزامها بأمن إسرائيل كدولة يهودية وأرض للشعب اليهودي".

...وبعد هذا أكد ما ليس بحاجة إلى التأكيد، وهو أن هدف أنابوليس "ليس التوصل إلى اتفاق، بل إطلاق المفاوضات"!!!
...وإذا بدأنا ببوش فنثنّي بأولمرت، الذي بدأ خطيباً بالقول، الذي أراد أن يكون له مغزى: "جئت من القدس"، مذكراً مستمعيه، بأنه كان لديه أسباب عديدة لعدم الحضور، من بينها "أعمال الإرهاب المخيفة التي ترتكبها المنظمات الفلسطينية الإرهابية"... مضيفاً مرجعية جديدة للتسوية التصفوية تضاق إلى خارطة الطريق ببندها الأول العتيد، وهي "رسالة الرئيس بوش إلى رئيس وزراء إسرائيل في 14/4/2004"... دون أن ينسى التعبير عن سعادته لأن يرى "في هذه القاعدة ممثلين من دول عربية معظمها لا تقيم علاقات مع إسرائيل"... ناصحاً هؤلاء الممثلين الحاضرين: إن "الوقت قد حان لإنهاء المقاطعة والعزلة والنسيان تجاه الدولة العبرية، فهي لا تساعدكم وتؤذينا"!

وما دمنا تعرضنا إلى التطبيع، فتجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، قد دعت العرب الحضور إلى شطب كلمة "النكبة" من قاموسهم والتوقف عن "التحسّر" على فلسطين، رافضة دفع ثمن مقابل التطبيع، قائلة لهم: "إن هذا المفهوم... هو خاطئ يا سادة"... وزادت، مستغربةً في جلسة مغلقة، وفق رواية صحيفة الواشنطن بوست: "لماذا لا يريد أحد مصافحتي؟! لماذا لا يريد أن يشاهد وهو يتبادل الحديث معي؟!"
...لقد أجابها بيرز، وهو يجول في النقب المحتل: "ليس مهما ما إذا كافوا يصافحون الإسرائيليين أم لا. سيفعلون ذلك المرة المقبلة"!!!

وننهي بأبي مازن، الذي رأى في اللقاء ما استحق وصفه ب"الفريد من نوعه في تاريخ الصراع"، لدرجة يمكن أن تجعلنا نقول "مرحلة ما قبل مؤتمر أنابوليس ومرحلة ما بعده"، وحيث أن "هذه الفرصة لن تتكرر مرة أخرى"، وعد فلسطينيي غزة بأن "ساعات الظلام ستزول"... مؤكداً: "سنواصل العمل وفق ما تمليه علينا خطة خارطة الطريق، والتزاماتنا فيها، لمكافحة الفوضى والعنف والإرهاب ولتوفير الأمن والنظام وحكم القانون"... وختم مبشراً: "وضعنا القطار على السكة... نحن متفائلون بالنتيجة التي وصلنا إليها، جئنا بهدف ونستطيع أن نقول أننا حققنا هذا الهدف"!

...وأخيراً، هناك، وفق المعلن، إنجاز يضاف إلى مآثر أنابوليس، أنه أنابوليس روسي، إنه سليلها. بيد أن الأهم من هذا هو ما كان قد سُرّب من مقترح أمريكي لقرار مزمع استصداره قريباً من مجلس الأمن، (عرض ليسحب لاحقاً لاعتراض إسرائيل عليه)، يقول:
"يدعم مجلس الأمن برنامج العمل حول المفاوضات وحول تطبيق الالتزامات المختلفة التي تنص عليها خارطة الطريق والتي تفاهم حولها الزعماء الإسرائيليون والفلسطينيون في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني في أنابوليس".

إذن، هم يعاودون جرياً على عادة ألفناها منهم استخدام الأمم المتحدة وقت الضرورة لتشريع ما لا يشرّع، وهنا، لعلها مصادفة ذات معنى، في ذكرى قرار تقسيم فلسطين قبل ستين عاماً، أن يتم الكشف عن وثائق أممية أزيلت عنها السرية لتقادم الزمن، تقول:
إن الأمم المتحدة، إياها، قد أعدت في حينها مخططات لإنشاء ميليشيات يهودية مسلحة مزودة بطائرات حربية بهدف تنفيذ القرار... يؤكد مؤرخ إسرائيلي أنهم كانوا يريدون إسناد الأمر إلى "الهاغاناه"!

وعودة إلى زفّة أنابوليس، روي أن وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل، قد حذّر وهو في طريقه إليها قادماً من باريس، من محاولة فرض معاهدة فرساي جديدة على العرب... مشيراً هنا إلى تلك المعاهدة المذلة التي فرضت على الألمان المنهزمين في الحرب العالمية الأولى، التي، كما هو معروف، قد أسست للحرب العالمية الثانية... القادم من الأيام غير البعيدة سيبين لنا ما إذا كان هناك من فارق بين ما حدث في فرساي وما دبّر في أنابوليس!!!