إن القمع السياسي شأنه شأن الكبت الجنسي، وفي بعض المجتمعات يبلغ الأمر ذروته، بشكل ينذر بكارثة اجتماعية تدمّر الحضارة الانسانية، فالعلاقة بدون شكٍّ متوترة ومأزومة والقمع منظّم ومشّرع، سواء المعلن منه وغير المعلن في معظم الدول لاسيما العربية منها، حتى عند من تدعي أنها ديموقراطية أو مستقرة أو في بحبوحة مادية ورخاء اقتصادي، وتحاول ان تخرج للمجتمع الدولي على أنها نموذج؛ فعند التدقيق في تركيبة البنية المجتمعية لها نجد أنّ شعوبها تعاني الكبت والقمع الذي يأخذ مناحي متعددة للتعبير بدءًا من التذّمر أو انتشار الشذوذ وصولا لأعمال العنف.

فالشعوب التي قمعت لفترات طويلة وعوقبت واضهدت ومنعت من ممارسة حقوقها الانسانية وحريتها، قد تحولت مع مرور الوقت الى قنابل موقوتة من حيث لا تدري، وأخذ التعبيرعن العنف فيها مناحي متنوعة وأصبح التطرف في المواقف وردود الأفعال سمة تسم تلك المجتمعات، ولا فرق في التطرف في كونه تطرف يقف خلف شعارات "دينية"، أو تطرف يقبع خلف شعارات "علمانية"، ذلك أن الغريزة إذا مُنعت كلًّيًا من الاشباع الضروري لحاجاتها فإنها تصبح في منتهى القوّة ولها سلطة يمكن ان تحول الكائن الانساني الى الهوس والهلوسة كما المخدّرات.

فعندما تدان المعارضة السياسية والوطنية ويلاحق افرادها ويسجنوا، وتحظّر الاحزاب، يُقمع العقل السياسي، فيزداد تداول الكتب المحظورة والنشرات السياسية السريّة وتصبح المنتديات الالكترونية الاداة لصب الغضب وشتم السلطات.

وبقدر ما يُدان الجنس تزداد مبيعات الافلام الداعرة ويزداد إقبال الشباب على المواقع المحظورة والسلوك الجنسي الشاذ في الخفاء او العلن.

ان الحاصل اليوم في مجتمعاتنا العربية كلّها من المحيط الى الخليج ومن دون أدنى مجاملة أو تجنّي، أنها شعوب قُمعت سياسيًّا من قبل السلطات مع تفاوت في الدرجات بطبيعة الحال بين نظام وآخر، كما أنها كبتت جنسيَّا أما عن طريق العُرف أو القوانين او تحت ستار الفتاوى الدينية، الأمر الذي جعل من السواد الأعظم من هذه الشعوب نارًا مُتأججة في العقل اللاوعي للمجتمع ووضعه على فوّهة بركان تحاول السلطات والانظمة الحاكمة جاهدة عبر وسائلها المتنوعة منعه من الانفجار، غير انه سينفجر مع أقرب فرصة تتاح له وربما تكون عوامل الانفجار بسيطة وتكون بمثابة القشة التي تقسم ظهر البعير، فالسلطات مهما بلغت قوة ضبطها للجماهير فإنها لا تملك القوة الكافية من منع انفجاره الى مالا نهاية وعندها ستعم الفوضى.

ويبقى السؤال: كيف لنا ان نعرف ذواتنا الحضارية وقد كبتنا عقولنا في غور سحيق؟؟ لذلك فإننا وقعنا فريسة الخوف والرعب والهلع؟! وأصبحنا أمة تخاف كلّ شيئ؟؟ وتداعت عليها الأمم وأصبحت تتدخل في كل شؤونها وتتحكم في مواردها واقتصادها!

ترى ماذا يحصل لمسؤول عربي لو قال "لا " لقرار مجحف في محفل دولي؟؟

ترى ماذا يحصل لمواطن عربي إذا استوقفه شرطي على سبيل المثال؟؟؟ يمتقع لونه وتزداد ضربات قلبه في احسن الاحوال.

وماذا يحصل لفتاة لو علم أهلها بأنها مارست الجنس قبل الزواج؟؟؟ تُعاقب مدى حياتها في أحسن الأحوال، وتتحول الى كائن ناقم على شيئ.

فالمرأة التي توصف في بأنها "المحجبة "، أو تلك التي توصف بأنها "سافرة " وما بينهما من درجات "الحجاب" المتفاوتة تلعب دائما دور الإثارة من خلال الاختباء حتى وإن تعرّت في الشكل، والرجل هو ذاك الشخص القوي الذي يبحث عنها دائمًا.

هؤلاء النساء لا يتعرين تمامًا، لأن العري الكامل لا يسبب الإثارة، فهدف "الموضة" كما يعلن مصممو الأزياء أنفسهم هو جعل المرأة أكثر إثارة من خلال "ملابس" مثيرة جنسيًّا، والواقع أنّ المرأة نشأت وتربت على لعب دور إثارة الجنس الآخر، مستغلّة الكبت المستفحل القابع في داخله، ولعلّ الواقع "الفنّي" الحالي خير شاهد على ذلك فيكفي "التعري" ليجعل من "المطربة" محبوبة الجماهير المكبوتة وتصل الى مصافي "النجوميّة " بحيث تصبح أكثر شهرة من مريم العذراء.

بالمقابل فإن المبالغة في "الاختباء" الكامل والتستر والاحتجاب بشكل يربك نظام الحياة السويّة، يعكس عدم التوازن والوضوح، ويكرّس صورة الأنثى "الجسد المكبوت" التي إما تبالغ في احتجابها لانها لا ترى في الرجل الا انه ذكر يجب الابتعاد عنه، أو أنها تعمل على تحيّن الفرص للانفلات مما تعتبره قيدًا يقمع رغباتها الجامحة فتعمل على التبرج الصاخب المفرط خلف نقابها والتعري المبتذل داخل المجتمعات والمناسبات " الأنثوية".

ويبقى احترام الإنسان وحريته هو الاساس للنهوض بالمجتمع، وتبقى الديموقراطية هي المخرج للأزمات وذلك بوصفها أسلوب حياة منبني عن وعي يُمارس في شتَّى مناحي الحياة بما في السياسية، حيث يؤدي التناوب على السلطة وإلى أن يكون الشعب فاعلا في القرار السياسي والإجتماعي، بحيث يعيش المواطن العادي الى جنب السياسي فيدخل مجلس النواب والمؤسسات العامة، فيعايش ويختبر عملية صناعة القرار ويكون جزءًا لا يتجزأ منها، عندها تسقط هيبة القصور بوصفها ذاك المقدس الذي يُحرم الاقتراب منه او نقد سلوك ساكنيه، فيختلط المواطن مع الرؤساء ويتعرف الشعب الى نقاط التلاقي وآليات العمل وصعوباته ونقائضه، عندها تنتفي المعارضة السلبية وتسقط المشاعر العدوانية تجاه السلطة السياسية وتنتفي حاجة العقل اللاواعي في المجتمع الى تحقيق المطالب عبر الأداء العنفي.

وعندما يتعاطى الرجل والمرأة بانفتاح ووضوح واحترام تجاه بعضهما لبعض، ويعيش النساء والرجال معًا كإنسان، ويتعرّفوا إلى نقاط الاختلاف والتتاقض تسقط حاجة العقل اللاواعي الى تحقيق رغبات مكبوتة تأخذ الطابع الجنسي الحادّ.

ولا يعود للباس مهما كان وكيفما كان قيمة بحد ذاته، فلا معنى حقيقي له ولا معنى من وجوده او عدمه، ولا يعدو عن كونه أكثر من قطعة قماش تقيه الحرّ والبرد يظهر من خلال ارتدائها بوصفه انسان.

فعندما نتحرر نحن البشر من الكبت الكامن في لا وعينا المجتمعي يزول الخوف والرعب من حياتنا تلقائيًّا ويتوقف معه الصراع المحموم الدائر بين اللاوعي والسلوك، ويتوحد الظاهر بالباطن، ونصبح عندها كائنات انسانية للمرة الأولى.

فالكائن الإنساني بوصفه مخلوق ينتمي لمنظومة كونية شديدة الترتيب والنظام، إذا تحرر عقله اللاواعي من أسر المكبوتات، تتحرر غريزته بشكل تلقائي فطري قد يكون أكثر ذكاءً وواقعية، فيحترم جسده ويتعاطى برفق مع مكنونات لاوعيه فيعي بفطرته آليات إشباع حاجاته بطريقة سوّية وملائمة للبيئة فتنتفي الصراعات وتتلاشى داخل كينونته ويستعيد توازنه الداخلي وتسقط الحجب بين عقله اللاواعي والعقل الواعي ويصبح معها كلٌّ متكامل متوازن مع سيرورة النظام الكوني ولعل الانسان الحرّ يفهم العمق الدلالي لمنطوق الآية القرانية في سورة الملك: "ماترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور"؟؟